الميسر الجاهلي: أبعاده ودوره في ممانعة ظهور الدولة
- محمّد الحاج سالم
- 15 mars 2009
- 24 min de lecture
ناقش الأستاذ محمّد الحاج سالم، وهو من كتّاب الأوان، يوم الجمعة 6 مارس 2009 أطروحة دكتورا في اللغة والآداب والحضارة العربية بكلية الآداب والإنسانيات والفنون بمنوبة (تونس) تحت عنوان “الميسر الجاهلي: أبعاده ودوره في ممانعة ظهور الدولة”. وقد تكوّّنت اللّجنة العلمية التي ناقشت الأطروحة من الدّكاترة: توفيق بن عامر رئيسا، وعليّ الغيضاوي ومبروك المناعي مقرّرين، ومحمّد عجينة مشرفا، والعادل خضر عضوا. وقد أسندت اللجنة بعد النّقاش والمداولة، درجة الدكتورا للأستاذ محمد الحاج سالم بملاحظة “مشرّف جدّا”، فتهانينا للدّكتور بهذه الشّهادة. ونحن نقدّم هنا خلاصة عامّة عن أطروحته لأهميتها في الكشف بعض الأبعاد المغيّبة في تراثنا العربي من وجهة نظر أنتروبولوجية ولما تطرحه من مساءلة لقضايا حيوية هامة مغيبة فيه. وهذه مقتطفات من تقديمه.
فـي دوافـع البحث:
إنّ اختيار أيّ بحث علميّ عمليّة تتضافر فيها عدّة عوامل، منها ما هو شخصيّ ومنها ما هو علميّ. ويمكن إجمالا اختزال الدّوافع الشّخصيّة في حبّ عميق للأدب العربيّ جملة منذ نعومة أظفاري، فكم سهرت من ليال مع بطولات عنترة بن شدّاد العبسيّ من خلال مطالعة سيرته وكانت في أربعة مجلّدات، ولطالما شغفت بمكارم أخلاق أبي الفوارس وبطولاته، وهو ما طبع مسيرة حياتي برمّتها، ونمّى لديّ شغفا عميقا بأخبار العرب عموما وبالشّعر الجاهليّ على وجه الخصوص.
أمّا الدّوافع العلميّة فتتلخص في ندرة البحوث المخصّصة لمسألة ولادة الدّولة الإسلاميّة الأولى، وإذا ما وجدت فإنّ أغلبها لا يقدّم شيئا ذا أهميّة خصوصيّة قد يسمح بفهم ما جرى بالفعل على أرض الواقع آنذاك. فقد تبنّى معظم تلك الدّراسات خطّا تقليديّا، إمّا بتناول المسألة من منظور دينيّ معتمدا تفسيرات غيبيّة لا تدخل في مجال التّفسير التّاريخي لمسار تكوّن الدّول وصعودها، أو من منظور استشراقيّ رأى فيها مجرّد مُنْتَج ثقافيّ، أو مجرّد حدث تاريخي كان محتّما أن تشهده جزيرة العرب لأسباب اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو حتّى سياسيّة. ولم تول تلك الدّراسات كبير أهميّة للتّحليل الأنتروبولوجيّ للمسألة الذي نزعم أنّ له أهميّة خاصّة في الكشف عن بعض النّتائج الهامّة والطّريفة في هذا الخصوص.
ولقد كان مقدّرا لوجهتي العلميّة أن تيمّم شطر ميدان علم الاجتماع، إلاّ أنّ همّي الأوّل كان التخصّص في مجال الإناسة (الأنتروبولوجيا) إذ كانت هواجسي منصبّةً دائما على محاولة فهم ما جرى فعليّا على أرض واقع الجزيرة العربيّة خلال القرن السّابع الميلاديّ وأدّى إلى ولادة هذا الحدث التّاريخيّ الضّخم المسمّى “الدّولة الإسلاميّة”، مقتنعا أن لا سبيل إلى مثل ذلك إلاّ بدراسة مستفيضة للواقع الأنتروبولوجيّ الذي انبثق الإسلام فيه ومنه ومن أجله.
وقد حصلت لدينا قناعة بأنّ تناول المسألة في شموليتها أمر غير ممكن، لا لتجاوز هذا التّناول قدرات فرد فحسب إذ هو يتجاوز أيضا قدرات أيّ مؤسّسة بحثيّة مهما كان حجمها، بل لأنّ ذلك يتطلّب:
ـ معرفة عميقة بالرّحم الذي تشكلّ فيها الإسلام، أي ما اصطلح على تسميته بالمجتمع العربي “الجاهليّ” ببناه الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة وبيئته وعقائده وعاداته، وتتبّع مسارات تلك المظاهر الحياتيّة، وتطوّراتها، وتحوّلاتها، أي جميع ما سمح في لحظة معيّنة بانبثاق عناصر جديدة تمكّنت من التّأثير في المجتمع برمّته وحوّلته إلى مجتمع “إسلاميّ” .
ـ معرفة عميقة بالبنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والبيئيّة والعقديّة التي مسّها التغيّر والأسباب التي أدّت لذلك التغيّر أو سمحت به، والكيفيّات التي تمّ بها ذلك، والمقاومات التي لاقاها والدّوافع التّي شجّعت عليـه ...
إلاّ أنّ إنجاز مثل هذا العمل في ظلّ ندرة البحوث الدّقيقة المتخصّصة وانعدام الآثار الماديّة للمجتمع العربيّ “الجاهليّ” المراد تحليل بناه من كتابات ونقائش (لأسباب نعلمها جميعا)، علاوة طبعا عن آثار التشوّهات التاريخيّة للصّور التي وصلتنا عنه بفعل الأغراض والأهواء، يجعل منه أمرا شبه مستحيل ما لم نغيّر من طرائقنا ومناهجنا البحثيّة والتّخفيف من غلواء النّظرة الشّموليّة التي تريد تفسير الظّواهر في كلّيتها وتعليلها في إطار نظريّ شامل جامع مانـع.
أمّا على المستوى النّظري البحت، فقد تراءت لنا أيضا بعض العوائق: هل يمثّل الحدث الإسلاميّ تدخّلا إلهيّا في التّاريخ أم هو فعل بشريّ تاريخيّ ومحصّلة عوامل تثاقف مع الغير أم هو نتيجة عوامل جوّانيّة خاصّة بالبنى المتغيّرة ذاتيّا؟ وهل هو تغيّر خطّي خاضع للمحدّدات الاقتصاديّة وحدها أم هو نتيجة تغيّر هيكليّ في البنيات الاجتماعيّة الكليّة ؟ وفي هذه الحالة هل يمكننا الإحاطة الشّاملة الكاملة بمجمل الصّراعات المتعدّدة والمتداخلة (اقتصاديّة، اجتماعيّة، ثقافيّة، رمزيّة، ...) التي ولّدت التغيّر أو دفعت إليه أو سمحت به على الأقلّ والتي دارت بين جماعات اجتماعيّة قد تكون متباينة ؟
أمام كلّ هذه الإشكالات المعرفيّة والنظريّة، تراءى لنا أنّه لا مندوحة من اعتماد مقاربة جديدة للمسألة وإعادة صياغة موضوعها بما يمكّن من إضاءة بعض جوانبها المعتمة.
فبخصوص المنهج، ارتأينا أنّه قد يكون من الأجدى اعتماد منهج استقرائي للمسألة، عبر تحليل المسار الكليّ لحركة التّغيير التي يمثّلها الإسلام بالوقوف على المسارات الجزئيّة للظّواهر المتغيّرة التي سمحت للمجتمع “الجاهلي”ّ بأن يغدو “إسلاميّا” ، مع الوعي الكامل بانّ الكلّ الواحد لا يمثّل مجموع الأجزاء.
وبهذا، أعدنا صياغة إشكاليّة الديني والسياسي في الإسلام الأوّل، معتبرين أنّ السّؤال الصّعب والمحوريّ الذي لم تتمّ الإجابة عنه إلى حدّ الآن ليس: لماذا كانت دولة الإسلام؟ بل هو: كيف انبثقت تلك الدّولة؟ أي الكيفيّة التي تمّت بها الأمور على أرض الواقع المعيش.
فعوض دراسة ظاهرة انبثاق دولة النبيّ في عموميّتها وشموليّتها ارتأينا:
التّركيز على التغيّرات الهيكلّية العميقة الّتي مسّت إحدى المؤسّسات الكلّية الّتي كانت تنتظم المجتمع القبليّ العربيّ ما قبل الإسلاميّ والتي كانت تفرز اتّجاها معاديا لانبثاق دولة، وذلك من خلال تحليل الفعل النّبويّ ذاته – بوصفه النّاظم الرئيسيّ لهندسة ما سيعرف بدولة المدينة- في جدليّته مع المعطيات التّاريخيّة لوسط الجزيرة العربيّة سواء منها الموروث أو المستجدّ زمن الدّعوة، وجدليّته مع الخطاب الجاهليّ نفسه.
ثمّ تحليل مسار حركة الأسلمة التّصاعديّة نحو بناء الدّولة فيما يمكن وصفه بـ“جدليّة الهدم والبناء” الّتي انبنت على ثلاثة متغيّرات: التّحريم والإقرار والتّغيير.
فـي الـمـوضـوع:
وفي هذا الإطار المنهجي العامّ، بدا لنا أنّ بحث مسألة التّحريم بوصفها إحدى أهم آليّات التّغيير الّتي اعتمدتها الحركة المحمّدية منذ بداياتها، قد تكون ذات جدوى من النّاحية المعرفيّة إذا ما تمّ تناولها من منظور إناسيّ، وأنّ تتبّع سيرورتها من خلال تفاعلها مع ممارسة قام الإسلام بشجبها وتدميرها من خلال تحريمها، قد يمكّن من اكتشاف بعض الإواليّات التي حكمت نشوء دولة الإسلام الأولى، إذ أنّ تحريم بعض الممارسات الموصوفة بالجاهليّة، وإن كان ذا بعد دينيّ في المقام الأوّل، فهو لا يعدم أبعادا اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة، هذا إن لم يكن هدفه أصلا إحداث تغييرات جذريّة في تلك الأبعاد بالذّات. فالتّحريم إنّما يُقصد به أساسا ضرب البنى الاجتماعيّة الّتي أنتجت الممارسة وجملة الأفكار والمعتقدات التي كرّستها: عبر ضرب وظائف تلك الممارسة، ووسائطها، ونتائجها، بما في ذلك المعتقدات المحيطة والمرتبطة بها. فقد كان التّحريم الإسلاميّ لبعض الممارسات “الجاهليّة” يرمي أساسا وفي نفس الوقت إلى تحقيق هدفين متكاملين:
1هدم أركان عقيدة وثنيّة نرى أنّها كانت من القوّة بحيث تمكّنت نسبيّا من التصدّي للإسلام النّاشئ وممانعة انتشار الدّعوة ومحاربتها عسكريّا ومنعها من بناء منظومة عَقَدِيّة بديلة.
2هدم بنية اجتماعيّة قبليّة لا مكان لسلطة تنظيميّة بشريّة مركزيّة فيها، وبناء إطار اجتماعيّ بديل تتولّى تنظيمه سلطة مركزيّة بشريّة هي الدّولة.
فـي الإطـار النـظـري الـعـام :
من هنا، ارتأينا أنّ تناول مسألة التّحريم الإسلاميّ يقتضي فـي آن:
اعتماد إطار نظريّ يرى في الدّين – على إطلاقه – شأنا سياسيّا في المقام الأول يهدف إلى ممانعة نشوء نصاب مستقلّ عن المجتمع قد يتحوّل إلى متحكِّم فيه، ويرى في الشّأن السّياسيّ أمرا دينيّا من حيث جوهر كينونته المرتبطة بحصول انقلاب في التصوّرات الدّينيّة بما يسمح بنقل السّلطة المبثوثة في ثنايا المجتمع إلى نصاب مستقلّ وخارج عنه: الدّولـة. وتعتمد الرؤية النظريّة النّاظمة لهذا البحث فكرة محوريّة أساسها أنّ المجتمعات البدائيّة – والمجتمع العربي الجاهلي منها - ليست مجتمعات دون دولة نتيجة لعجزها الهيكليّ عن إفراز تنظيم دولويّ (من دولة)، بل لأنّها في الحقيقة مجتمعات ضد الدّولة أو هي مجتمعات ذات نزعة لقاحيّة إن شئنا تعريب هذا المفهوم. فبما أنّ كينونة الدّولة لا توجد إلاّ من خلال وجود تقسيم في المجتمع بين مهيمِنين وآخرين خاضعين، فقد عملت المجتمعات الموسومة بالبدائيّة على استنباط إواليّات مكّنتها من إجهاض كلّ محاولة تهدف إلى انبثاق الدّولة، وذلك بإفراغ أيّ سلطة حادثة فيها من محتواها وعدم الاعتراف بغير سلطة الآخر الغائب أي الأسلاف والآلهة. إلاّ أنّ هذا الاستخراج للانقسام الدّاخلي يشكّل مفارقة من حيث هو في حقيقته رضى بوجود انقسام هو ما يجعل قيام الدّولة احتمالا قائما، بل وشرط وجودها أيضا: فما دامت هناك إمكانيّة لقيام بشر بالتكلّم باسم الآخر المتعالي (النبوّة)، فإنّ إمكانيّة تحقّق الدّولة تغدو متأكّدة حين يغدو الارتهان للآخر الإلهيّ الغائب ارتهانا في الواقع للآخر البشريّ الحاضر (النبيّ).
ـ اعتماد مقاربة إناسيّة تفهميّة للدّين “الجاهليّ” بوصفه منظومة شاملة تتكامل فيها الجوانب العَقَدِيّة والاجتماعيّة والسياسيّة بما يضمن حسن اشتغال المجتمع القبليّ “المفتّت”، مع اعتبار هذا التفتّت شرطا ضروريّا لمنع تكوّن أيّ تكتّلات اجتماعيّة – سياسيّة قد تمثّل في لحظة مّا خطرا على الوجود القبليّ ذاته من حيث أنّها تمثل فرصة للاندماج بين القبائل، وبالتّالي فسح المجال لإمكانيّة ظهور الدّولة الواحدة/الموحِّدة. وهو ما يقتضي ثلاثة أمور:
1 - إعادة بناء العلاقة بين الدّين والسّلطة السياسيّة في المجتمع الجاهليّ الذي انبثق الإسلام منه.
2 - تحليل الأبعاد الاجتماعيّة والثقافيّة والدّينيّة والسياسيّة التي تمحورت حولها جملة الرّهانات التي حفّت بالصّراع الجاهليّ الإسلاميّ.
3 - تحليل مقارن للدّين “الجاهليّ” مع الأديان التي كانت منتشرة في المنطقة العربيّة لحظة ظهور الإسلام وما سبقه من أديان عرفتها تلك المنطقة وتأثر الدّين “الجاهليّ” بها، وذلك لفهم الأبعاد العَقَدِيّة الخفيّة الّتي دفعت إلى تحريم الإسلام النّاشئ ممارسات بعينها دون أخرى.
إشـكالـيّـة الـبـحـث: المَيْسِر الجاهلي
ولئن طال التّحريم الإسلاميّ عدّة مؤسّسات جاهليّة، فإنّ اختيارنا استقرّ على دراسة مسألة تحريم الميسِر بعد أن رأينا فيه مؤسّسة متكاملة قد يمكّن تحليلها من اكتشاف أبعادها الدّينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ولكن وبالخصوص أبعادها السياسيّة الخطيرة في تنظيم المجتمع “الجاهليّ” الذي كان يعتمد اللقاحيّة مبدأ عامّا ومركزيّا لوجوده ، وهي الأبعاد التي لم تحظَ في المدوّنة الإسلاميّة – ولا في الدّراسات الإستشراقيّة أو العربيّة الحديثة والمعاصرة أيضا - بما تستحقّ من أهميّة. وهو ما دفعنا إلى التّساؤل:
- عن أسباب هذا التّقصير في بيان أمر أكّد القرآن تحريمه وقرنه بجملة ممارسات دينيّة طقوسيّة تعبّدية أخرى تدخل في إطار منظومة متكاملة ذات وظائف حيويّة للمجتمع الجاهليّ حاربها الإسلام بقوّة.
- وعن مغزى هذا التّغييب– المتواصل إلى أيّامنا- في ظلّ سيطرة قراءة أحاديّة للنّصوص الدينيّة ترى في المَيْسِر مجرّد قِمَار.
إلاّ أنّ التّركيز على الأبعاد الدّينيّة لمؤسّسة الميسر لا ينبغي أن يحجب عنّا جملة الرّهانات الأخرى وخاصّة ذات الطّبيعة الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي اكتنفت عمليّة تحريمه. ومن هذا المنظور، فإنّه ينبغي استحضار جميع الرّهانات السّياسيّة التي غذت حركة الممانعة لدى مجتمع رافض لمبدأ الدّولة، وتلك التي غذت حركة اجتماعيّة دينيّة جديدة تعمل على إنشاء دولة في أرضيّة واقع دينيّ واجتماعيّ واقتصاديّ رافض لها ومعـاد.
ومن هنا، رأينا أنّ تناول عمليّة تدمير «مؤسّسة الميسِر الجاهليّ» وتعويضها بمؤسّسة أخرى نفترض أنّها «مؤسّسة الصّدقة» ضمن سياق تغيّر دينيّ واجتماعيّ هيكليّ عميق، قد يكون أحد المداخل الممكنة لتناول مسألة تكوّن الدّولة العربيّة الإسلاميّة الأولى وتحليل الأرحام الأوليّة الّتي تولّدت منها وفيها أي إعادة قراءة مفردات «الدّين الجاهليّ» والأسس الّتي انبنت عليها طقوسه ومن أهمّها الميسِر.
فـي الـمـنـهــج:
ومن هذا المنظور، بدا لنا أنّه لا سبيل لفهم التّحريم الإسلاميّ للميسر إلاّ عبر المعرفة الدّقيقة لتلك الممارسة وكشف مدى أهميّتها في تنظيم المجتمع “الجاهليّ” وضبط سلوكاته – بما فيها السّلوك السياسيّ - الذي كان الإسلام الوليد يهدف إلى تحطيمها في سبيل بناء منظومته المجتمعيّة الخاصّة، وبالتّالي إرساء قواعد دولته. وهو ما يفرض تناول جملة التّحريمات الإسلاميّة الأخرى المرتبطة بهذا الطّقس الشاملة بعض الأشربة والأطعمة (كالخمر وذبائح الأنصاب)، والإبل المسيّبة المحرّمة (كالوصائل والبحائر والسّوائب)، وبعض القرابين (الحيوانيّة كالعتر، والإنسانيّة كالوأد)، وتحطيم دورة الزّمن المقدّس (تحريم النّسيء وضبط الأشهر الحُـرُم).
فـي مـادّة الـبـحـث ومـصـادره:
وقد اعتمدنا في بحثنا منهجا إناسيّا متعدّد الرّوافد جامعين بين منجزات علوم الإناسة السّياسيّة والإناسة الثقافيّة والإناسة الدّلاليّة، منفتحين في الآن نفسه على جميع العلوم الإنسانيّة من تحليل تاريخيّ وعلم الأديان المقارن والتّحليل الفيلولوجيّ والتّحليل اللّغويّ المقارن مع اللّغات الأخرى وخاصّة منها العروبيّة. كما اعتمدنا أيضا تحليل الرّموز الأدبيّة العربيّة الخاصّة بموضوع بحثنا (الميسِر) من أساطير وأمثال وقصص وشعر. وقد مكّننا هذا من إعادة بناء جملة الأفكار التي تحملها اللّغة بشأن الميسِر بوصفها تعبيرا حضاريّا عربيّا مخصوصا لممارسة دينيّة عميقة الجذور في كامل المنطقة العربيّة القديمة، لكنّها اتّخذت مع عرب الجاهليّة اتّجاها مكّنها من الانخراط في منظومة مجتمعيّة قبليّة كانت أهمّ خصائصها ما أسميناه “النّزعة اللّقاحيّة” أي تلك النّزعة الرّافضة في العمق لمبدأ ظهور نصاب مستقلّ عن الجماعة متحكّم في شؤونها، أي ما نسمّيه «الدّولـة».
أقـسـام الـبـحـث:
وقد انقسم البحث إلى مقدّمة عامّة وخمسة أبواب يتضمّن كلّ باب منها مقدّمة وأربعة فصول وخاتمة وخاتمة عامّة مشفوعة بقائمة المصادر والمراجع وستّة ملاحق أهمّها ما خصّصناه للأمثال العربيّة المرتبطة بالميسر وقد جمعنا منعا 24 مثلا، والضّميمة الخاصّة بالمصطلحات المرتبطة بالميسر مرتّبة على حروف الهجاء وقد تجاوز عددها 175 مصطلحا، ثمّ ملحقا بالكتب العربيّة في الأنواء وآخر في الأسجاع المتعلّقة بها.
ولقد مهّدنا لبحثنا بمحاولة إعادة التعرّف على بعض ملامح النّموذج المعرفيّ الذي تبلورت فيها نظرة عرب «الجاهليّة» إلى العالم وإلى تاريخهم، وقد تبيّن لنا أنّ القول بالطّابع الوثنيّ لـ»الدّيانة العربيّة الجاهليّة» بمعنى «عبادة الأحجار التي لا تنفع ولا تضرّ» فيه بعض التجنّي إذ لا وجود في النصّ القرآنيّ لما يسنده، فيما هو يشير بكلّ وضوح إلى اعتقاد العرب في «الدّهر»، وهو ما يؤكّده ما تكرّر في الشّعر «الجاهليّ» من إشارات. فقد اعتقد العرب بتأثير الزّمان النّاتج عن حركات النّجوم والكواكب في أفلاكها في البشر والحيوان والنّبات على الأرض، وهو ما يصحّ تسميته «العقيدة الدّهريّة الجاهليّة» التي وجدت ترجمتها التعبّديّة الطّقسيّة في التقرّب إلى «النّجوم» بوصفها «آلهة صغرى» أو «ملائكة» و«بنات الإله الأكبر» وعبادة ما يمثلها على الأرض من «أصنام» بوصفها «متوسّطات بين البشر وربّ الأرباب».
ولم يكن العرب بدعا في اعتمادهم هذه «العقيدة النّجوميّة» أو «العقيدة الصّابئيّة» بتعبير القدماء، فقد كانت تلك العقيدة منتشرة في كامل المنطقة العربيّة القديمة وما يجاورها، وكانت قائمة على «مبدأ أحيائيّ فلكيّ» يرى في تحرّكات النّجوم علّة الحوادث في العالم، وهو ما نتج عنه الاعتقاد بـ«وحدة الزّمان» (العقيدة الدّهريّة) وبـ«وحدة الوجود»، وتمّ التّعبير عن ذلك بواسطة «منظومة تماثل رمزيّ» شاملة تجلّت أبعادها في مفردات اللّغة اليوميّة وخاصّة في خطابي الشّعر والأسطورة. فقد ارتبطت عوالم السّماء والطّبيعة والإنسان في التّصورّ العربيّ «الجاهليّ» وتداخلت، منشئة عالما رمزيّا يشملها ويماثل بين ظواهرها، بحيث أنّ ما يحدث في أحدها يكون له ما يوازيه في العالمين الآخرين. وقد كان هذا الاعتقاد لبّ «العقيدة الجاهليّة» ومحور «الوجود الجاهليّ»، فيما كانت «منظومة التّماثل الرّمزيّ» مصدر الحقائق اليوميّة الحيّة المباشرة في تعاطيها مع خصوصيّات بيئة العرب الصّحراويّة وما فرضته من اقتصاد رعويّ كان سبيله التكيّف في آن مع تلك الرّؤية وتلك البيئة، بقدر ما كيّفهما. فقد كانت «العقيدة الجاهليّة» والطّقوس المعبّرة عنها (العتائر والسّوائب والحجّ والميسِر...) والخطابات النّاتجة عنها (الشّعر والأسطورة ومختلف أشكال الأدب) الوسيط الرّمزي بين البيئة الصّحراويّة والإنسان العربيّ «الجاهليّ»، بينما كان الاقتصاد -الرّعويّ أساسا ـ الوسيط الأداتيّ بينهما، وهو ما نتج عنه نمط فريد من الاجتماع يعتمد القبيلة «وحدة اجتماعيّة اقتصاديّة سياسيّة» تجهد في سبيل استقلالها على جميع المستويات الوجوديّة.
وبهذا الفهم لطبيعة الدّين الجاهليّ، باشرنا الباب الأوّل من بحثنا مبتدئين بتجلية ما اعتبرناه الحقيقة الضّائعة للميسِر الجاهليّ نتيجة التشوّهات التي لحقته بدوافع إيديولوجيّة على مرّ التّاريخ الإسلاميّ، وإجلاء ما ران على مصطلح الميسِر من غموض نتيجة عدم بيان كنهه في النصّ القرآنيّ المحرّم له وذهاب معظم المصادر الإسلاميّة إلى مماهاته بالقمار.
فالقرآن لم يذكر المَيْسِر بلفظه إلاّ في ثلاثة مواضع ضمن ثلاث آيات، هي الآية 219 من سورة البقرة، والآيتان 90 و91 من سورة المائدة. وقد دفعنا اعتراف القرآن بمنافع الميسر للنّاس إلى تتبّع تطوّر معنى لفظه لغة واصطلاحا، فتبيّن لنا أنّ معناه اللّغويّ الأصليّ متعلّق باللّين والانقياد، وهو المعنى الذي ظلّ سائدا طوال القرون الثلاثة الأولى بعد الإسلام قبل أن يسود التّعريف الفقهيّ المماهي بينه وبين القمار ابتداء من القرن الثالث الهجريّ تقريبا بناء على تأويل ضيّق للنصّ القرآنيّ أجمع عليه المفسّرون والفقهاء دون وجود ما يسنده من القرآن أو السنّة.
وقد كان لسيادة التّعريف الفقهيّ على حساب التّعريف اللّغويّ عميق الأثر في كيفيّة تشكّل الوعي الإسلاميّ بشأن الميسِر ومساواته بالقمار بل ومماهاته باللعب الخالي من أيّ معنى، دون أن يحاول أيّ كان التّساؤل عن الخلفيّة الثقافيّة التّاريخيّة التي سمحت بسيادة ذاك التّعريف ومحاولة تفهّم الأسباب التي كانت وراء ذلـك.
وقد تبيّن لنا من خلال إعادة بناء صورة الميسر أنّه لم يكن مجرّد تقامر على الإبل بين أماثل النّاس عند الشّتاء وامتناع القحط توزّع أرباحه على المحتاجين كما جاء في التّعريف الفقهيّ السّائد، بل كان يتضمّن أبعادا دينيّة عميقة مرتبطة بجملة من الطّقوس الوثنيّة عند عرب «الجاهليّة» (الاستقسام بالأزلام والنّحر عند الأنصاب وشرب الخمر...) وهو ما يبرّر تحريمه في القرآن بدليل وروده ضمن إطار تحريميّ يشمله وتلك الطّقوس. ولمزيد فهم الميسر، قمنا باستخراج كلّ ما يتعلّق به من حيث هو لعبة تعتمد نحر إبل في طقس «وثنيّ» يتّسم بأجواء الفرح والتّنافس بين المتياسرين وتعاطي الخمور بما يساعد على الانتشاء الدّينيّ، وحاولنا النّفاذ إلى جوهر تلك اللّعبة متتّبعين القوانين التي تضبطها شارحين تقنياتها ولوازمها كما أثبتته المصـادر.
وقد انتهينا إلى أنّ ما وصلنا عن دوافع لعب الميسِر عند عرب الجاهليّة وكيفيّته وأهدافه صورة مشوّشة ومتضاربة الملامح خاصّة في ما يتعلّق بوظائف الأطراف المشاركة فيه، إذ اقتصرت المصادر عموما على ذكر أدوارهم الإجرائيّة مجرّدة من أيّ بعد اجتماعيّ أو دينيّ. وقد حاولنا ترميم تلك الصّورة الموروثة مستعينين بفهم جديد لما ورد في بعض كتب اللّغة وفي الشّعر «الجاهليّ» خصوصا من إشارات حول الميسِر، وهو ما مكّننا من إيضاح بعض الجوانب الإجرائيّة في كيفيّة لعبه وبيان حقيقة الوظائف المناطة بأطرافه:
فمن وظائف «الحُرَضة» إدارة اللّعب في الميسر والحفاظ على أدواته والسّهر على حسن أداء طقوسه، ومن وظائف «الرّقيب» الإشراف العامّ على الطّقس والتّحكيم بين المياسرين وتعيين الفائزين، ومن وظائف «الجزّار» الإعداد الطّقسيّ للنّوق المنحورة وتلطيخ الأنصاب الموضوعة على حدود الحمى بدمائها، وهي وظائف دينيّة هامّة داخل «مؤسّسة الكهنوت الجاهليّة».
كما خلصنا بعد البحث إلى وجود وظائف دينيّة أخرى لهذه الأطراف أهمّها إشراف «الحُرَضة» على «تعويذ حمى القبيلة» بطقوس سحريّة كان الميسِر أحدها وحرق القرابين المصعّدة للآلهة» بما فيها قرابين الميسِر والإشراف على طقوس «الكهانة بضرب قداح الأزلام»، وإشراف «الرّقيب» على «الأموال المحجّرة للآلهة» أي المحبّسة من أصحاب الحاجات والمرضى من النّاس لفائدة البيوتات المقدّسة بما فيها النّوق المعدّة للقمار في طقس الميسِر.
أمّا عن الأطراف الأخرى المشاركة في الميسِر، فقد بيّنا أنّ «المياسرين» كان محرّما عليهم الأكل ممّا كانوا يقمرون من أنصباء اللّحم المتراهن عليها وأنّهم كانوا يوزّعون مرابيحهم على المحتاجين من أبناء القبيلة أو من خارجها (الأعران) وخاصّة الأطفال والنّساء منهم، وأنّ النّساء كان محرّما عليهنّ استهلاك لحوم الأنعام المسيّبة للآلهة باستثناء لحوم الميسِـر.
ولعلّ أهمّ ما توصّلنا إليه في هذا الباب هو أنّ الميسر لم يكن مجرّد لعبة لتزجية الوقت أو سبيلا للرّبح السّهل (القمار) كما درج المأثور على إشاعته، بقدر ما كان طقسا دينيّا أضحويّا يقام شتاء مع بداية تجمّع القبائل على المياه في أماكن معروفة لكلّ قبيلة بعد فترة القيظ المتميّزة بقلّة الأمطار بغاية استرضاء الآلهة عبر نحر إبل يتراهن عليها المياسرون على الأنصاب المعيّنة لحدود حمى القبيلة بما يقيها من كلّ عدوان خارجيّ سواء من البشر أو من الخوافي (الجنّ خصوصا)، فإذا ما عبّرت الآلهة عن عدم رضاها بخروج القدح «السّفيح» خلال اللّعب، قام المياسرون بزيادة الخطار ونحروا من الإبل ما يرضيها. كما توصّلنا إلى أنّ من أهمّ أهداف الميسِر توفير موارد لممثليّ «مؤسّسة الكهنوت الجاهليّة» من خلال اختصاصهم بأرباح القدح «الوغد»، إلى جانب توفير أقوات للمحتاجين بخصّهم بأرباح القدح «المنيـح».
وفي ضوء هذه الصّورة الأوّليّة للميسِر التي أبرزت أهميّته في اشتغال المجتمع القبليّ «الجاهليّ» من حيث تضمّنه أبعادا اجتماعيّة ودينيّة، خصّصنا الباب الثاني من بحثنا لمحاولة تجلية هذين البُعديْن بالذات. وقد اتّضح لنا أنّ الميسِر «الجاهليّ» كان يمثل نظاما اقتصاديّا ظرفيّا مخصوصا بالأزمات يعتمد الإنقاص من فائض الإنتاج الذي كان الجدب يمنع الجماعة من توظيفه في الدّورة الإنتاجيّة من جهة أولى، وآليّة لتقليص كلفة المنتوج الحيواني عبر إحداث توازن بيئي بين أعداد الحيوان وكميّة الموارد الطّبيعية المتاحة، من جهة ثانية. كما اتّضح لنا أنّ الميسر كان من النّاحية الاجتماعيّة «مؤسّسة إغاثة» زمن النّكبات والمجاعات (القحط أساسا) لا بدافع المروءة والتّنافس بين «أماثل القوم» في كسب الذّكر الحسن من خلال «لعبة» تخصّص مرابيحها لإطعام المحاويج فقط كما ذهبت إليه المصادر القديمة وتذهب إليه معظم الدّراسات الحديثة، بل وبدافع دينيّ أيضا يتضمّن امتثالا عميقا لشريعة الأسلاف الذين سنّوا قواعد الاجتماع وقوانينه ومن ضمنها الميسِر. وقد حاولنا إقامة البرهان على أنّ الميسِر كان «أحد القوانين الاجتماعيّة» (بالمعنى السّوسيولوجيّ) للمجتمع «الجاهليّ»، وهو ما يفسّر ظاهرة «القسر الاجتماعيّ» الذي يتّصف به والتّحقير الشّديد للممتنعين عن المشاركة فيه ورميهم بالعار ووصمهم بصفتي «الأبرام» و«الحصورين» استنقاصا من رجولتهم، وعبّر عنه الشّعر «الجاهليّ» أحسن تعبيـر.
وبدافع من «العقيدة العربيّة الصّابئيّة»، اعتقد العرب أنّ أيّ خلل طبيعيّ هو نتيجة خلل في السّير العاديّ للنّظام الفلكيّ أو هو غضب إلهيّ من تصرّفات إنسانيّة يستوجب التّكفير عبر القيام بطقوس من شأنها استحداث وقائع أرضيّة وإن كانت رمزيّة استحثاثا للقوى الفلكيّة على فعل المثل في إطار ما يسمّى“السّحر التّشاكليّ”، وقد توصّلنا إلى:
- أنّ الميسِر «الجاهليّ» كان بالفعل أحد الطّقوس الدّينيّة السّحريّة وأنّه كان يقام خلال «فترة غياب نجم الثريّا» (نوء الثريّا) المتزامن عادة مع نزول الأمطار في ما يسمّيه العرب «فصل الوسميّ».
وأنّه كان يعتمد نحر الإبل وإسالة دمائها إرواء للقوى العلويّة حتّى تردّ الفعل وتنزل الأمطار سقيا لعبادها المستمطرين.
- وأنّه كان يتضمّن وليمة جماعيّة يتمّ فيها التّضحية بحيوان مقدّس ممثل للإله المسؤول عن الخصب أي «القمر» بوصفه محرّك الأنواء المتحكّمة في تواتر الفصول الطّبيعيّة وتغيّرات المناخ.
وقد قادت ملاحظة أنّ الميسِر طقس دينيّ سحريّ استمطاريّ مخصوص بالرّجال إلى طرح السّؤال حول مسألة غياب العنصر النّسويّ فيه بحسب ما تنقله المصادر حين تقصر مشاركتهنّ على طهي اللّحوم المقمورة واستهلاكها. فخصّصنا الباب الثالث لهذه المسألة ليتبيّن أنّ الميسِر كان أحد طقوس الخصب عند العرب الغابرة وأنّ له أصلا أسطوريّا يجعل منه احتفالا دينيّا لاستذكار زواج بدئيّ مقدّس، بما يحيل عليه كلّ زواج من طلب للخصب. وقد بيّنا أنّ الميسِر كان يتّخذ بحسب ما تقتضيه «منظومة التّماثل الرّمزيّ» التي تدور عليها العقيدة الدّهريّة الصابئيّة ثلاث صور تمثل كلّ منها انعكاسا للأخرى داخل المنظومة المذكورة:
أوّلها صورة لقاء سماويّ بين «القمر» الممثّل للإله الأب و«الشّمس» الممثلة للإلهة الأمّ.
وثانيها لقاء فحول الإبل بالنّوق في موسم ضرابها وتزاوجها.
وثالثهما اللّقاء الرّمزيّ بين قداح الميسِر مثيلة أعضاء الذكورة شكلا وفعلها الإخصابيّ المولّد للأنصباء وبين الرّبابة مثيلة الرّحم التي تضمّ القداح لتلد أنصباء لحم توزّع على الفقراء.
وكان من شأن تحليل هذه الصّور التي يمثّل الجنس بؤرتها وتمثّل المرأة محورها بيان تضمّن الميسِر في الأصل ممارسة جنسيّة تمّ استبدالها بمرور الزّمن بممارسة رمزيّة على مستوى اللّعب بالقداح وخضخضتها في الرّبابة، وأنّه كان يتضمّن في الأصل أيضا ممارسة عنف على النّساء كان يقتضي قتل بعض العذارى منهنّ فيما يسمّى «الوأد» قبل أن يستبدل هذا الفعل بنحر النّوق الأرضيّة (الإبل) بديلا رمزيّا من النّوق الإنسيّة (النّساء) في سبيل استدرار لبن النّوق السّماويّة (السّحب).
وقد أدّى هذا التحوّل إلى أن يصبح الميسر بحقّ مسرحة لعمليّة الخلق، وأن تغدو النّساء وخاصّة العذارى منهنّ محوره عبر تولّيهنّ الدّعوة إليه حين الحاجة بخروجهنّ إلى ساحة الحيّ وإشعال ما يسمّى «نار الميسِر» وهنّ واضعات الأخمرة في دعوة صريحة إلى الجنس، أو بالأحرى إلى بديله الرّمزيّ المرتضى أي الميسِر. وهو ما كان يعني أنّ الفوز بنصيب من اللّحم هو عديل الفوز بكاعب من بنات الحيّ، وأنّ كلّ نحر لناقة في اللّعب هو افتداء لصبيّة ممّا ينتظرها من «وأد». بل وقد يكون هذا التحوّل في الميسِر وراء تقديس العذارى المفترض وأدهنّ طلبا لغيث الآلهة لولا تدخّل المياسرين، وهو ما سعينا إلى بيانه لما في ذلك من تسليط أضواء جديدة على مسألة «الوأد الجاهليّ» ومساهمة في إيجاد تفسير مقبول لنشوء مؤسّسة «بنات طارق»، وخاصّة علاقتها بمسألتين مغيّبتين كليّا عن «الدّراسات الجاهليّة» وهما مسألتا «الكهانة النّسويّة» و»البغاء المقدّس».
أمّا الباب الرّابع، فقد عقدناه لتحديد الفترة من السّنة الطّبيعيّة التي كان يقام فيها الميسِر، وهي معضلة أعيت الكثير من الباحثين، إذ أنّ تحديدها بدقّة هو الكفيل وحده بتنزيل الميسِر في إطاره الدّينيّ والاجتماعيّ الصّحيح لارتباطه بما كان يعيشه المجتمع العربيّ الجاهليّ على غرار بقيّة الشّعوب القديمة من دورة زمنيّة متكرّرة يصحّ تسميتها «دورة الزّمن المقدّس»، ولم في ذلك من أهميّة في إجلاء الغموض المحيط بمسألة «الأشهر الحرم» من حيث موجباتها ووتيرتها، وما يتعلّق بكلّ ذلك من مسائل معقّدة تتصّل بممارسات دينيّة أخرى كأسباب تخصيص أشهر معيّنة دون غيرها بالحجّ وتخصيص آخر بالعمرة، وما يرتبط بضبط توقيت هذين العيدين من ضرورة وجود تقويم خاصّ بعرب الجاهليّة هو غير التّقويم الإسلاميّ القمريّ الذي سيحلّ محلّه، وما ينطوي عليه تناول هذين التقويمين من عمل على حلّ معضلة النّسيء وأسباب تحريمه في الإسـلام...
وفي سبيل ذلك، كان علينا ملاحظة أنّ العرب كانوا يعتمدون في جاهليّتهم تقويما خاصّا يصحّ تسميته «التّقويم النّوئيّ» مدفوعين في ذلك بعقيدتهم النّجوميّة، وقدّروا مرور الزّمن بطلوع نجم أو كوكبة نجميّة (وعددها 28) وقسّموا مدار القمر حول الأرض إلى ثمانية وعشرين جزءا متساويا حسب موقعه في السّماء بالنّسبة إلى تلك النّجوم سمّيت «منازل القمر» متّخذين النّجم المعروف باسم الثريّا أصل حركة القمر في السّماء في دورته حول الشّمس أي طوال سنة شمسيّة قبل أن يعود إلى موضع الثريّا. ويبدأ «حول الثريّا» في «نوء الثريّا» مع بداية فصل أمطار الخريف أي «فصل الوسميّ» ويدوم فترة ثلاث مائة وستّين يوما وربع يوم مقسّمة إلى ثمانية وعشرين نوءا يدوم كلّ منها فترة ثلاثة عشر يومـا.
ولئن تناولت المصادر العربيّة «مسألة الأنواء» عند عرب «الجاهليّة» بتوسّع مكّن من التعرفّ على ماهيّتها وكيفيّة حسابها وما قيل في ذلك من أشعار وأسجاع، فإنّ أغلب ما نقل إلينا بشأن مواعيدها كان يفتقر إلى كثير من الدقّة لجهل معظم النّاقلين بعلم الفلك وخاصّة ظاهرة تأخّر مطالع النّجوم بتقدّم الزّمن أو يسمّى «مبادرة الاعتدالين» أي تأخّر النّجوم عن مطالعها بفترة تقدّر بيوم واحد كلّ اثنتين وسبعين سنة، وهو ما استوجب منّا القيام بتصحيح مواعيد الأنواء العربيّة كما كانت تحدث على عهد النّبيّ، وهي الفترة التي تهمّنا.
وقد أدّت دراستنا لمشكلة توافق التّقاويم الغرغوريّ الشّمسيّ والإسلاميّ القمريّ والعربيّ الجاهليّ النّوئيّ، إلى إثبات أنّ موعد الميسِر كان متوافقا مع موعد نوء الثريّا الذي كان يحدث على عهد النّبيّ (في السّنة العاشرة للهجرة وقد جعلناها مدار حساباتنا)، أي بعد انقضاء النّصف الأوّل من «فصل الوسميّ» المتّسم بهشاشة الوجود الإنسانيّ والحيوانيّ إذ كان فترة انتظار ممضّ للأمطار التي يأتي بها هذا النّوء إنقاذا للعباد والبلاد من الآفات والعاهات بعد فصل القيظ المتميّز بغيض المياه. فقد كان هذا الفصل يبدأ في السّنوات الأولى من الهجرة يوم 16 أكتوبر/تشرين الأوّل ويمتدّ على فترة اثنين وخمسين يوما، فإذا لم تمطر السّماء خلال الستّة وعشرين يوما الأولى منه، فإنّ ذلك سيكون معناه القحط والجوع والموات للأرض والحيوان والإنسان بقيّة العام، إلاّ إذا أمطرت خلال الثلاثة عشر يوما الموالية أي خلال نوء الثريّا بين 11 و24 نوفمبر/تشرين الثانـي.
وبتحديدنا لهذا الموعد، أمكننا اعتمادا على ما يذكره الشّعر «الجاهليّ» حول «لعب الميسِر عند نوء الثريّا»، تحديد موعده من السّنة، فأمكننا الرّبط بين الميسِر وطقوس الاستمطار عند عرب الجاهليّة ليتبيّن لنا بعد بسط البراهين على ذلك أنّ الميسِر كان أحدها. فقد قام العرب باتّخاذ نوء الثريّا موعدا للتنقّل نحو المحاضر استعدادا لعمليّة ضراب الإبل، وهي عمليّة حيويّة ودقيقة كانت تقدّم فيها قرابين للآلهة طلبا للبركة وخاصّة للمطر، كما أقمنا البرهان على موافقته زمنيّا شهر رجب الخريفيّ باعتباره إحدى ذروتي دورة الفصول الطّبيعيّة وفيه تجتمع القبائل على نقاط مياه معروفة ومحدّدة ممّا يجعل منه شهرا مقدّسا يحرّم فيه كلّ اقتتال تسهيلا للإقامة على المياه وتقاسمها حسب الأعراف وتزار فيه الآلهة في ما يسمّى «العمرة»، فيما تختصّ الذروة الأخرى وهي موعد حلول فصل الرّبيع والانتقال ثانية إلى المحاضر بطقس «الحجّ» خلال فترة تدوم ثلاثة أشهر هي فترة التحضّر.
وقد أدّى هذا التّدقيق إلى النّظر في مسألة «النّسيء الجاهليّ» ودوافع تحريم الإسلام له وتبيّن لنا أنّه كان يهدف إلى ضرب دورة الزّمن المقدّس كما كان يستوعيه عرب «الجاهليّة» في إطار عقيدتهم الصّابئيّة النجوميّة إذ ماثلوا بين تزاوج الإبل وتزاوج الآلهة (التقاء الشّمس والقمر) في موعد الاعتدال الرّبيعيّ واتّخذوا بدايته عيدا خصّوه بأعظم احتفال دينيّ وهو الحجّ، وماثلوا بالتّالي بين موسم ولادة الإبل بعد تسعة أشهر من موسم الزّواج وظهور نجم الثريّا في موعد الاعتدال الخريفيّ بوصفه الابن الإلهيّ المنتظر (العزّى أو ما شابهها من آلهة بحسب القبائل) واتّخذوا من موعد تلك الولادة عيدا يعرف باسم (العمرة) تزار فيه مقامات الآلهة لإقامة طقوس دينيّة ورفع قرابين تعرف بالعتائر الرّجبيّة، ومن بين تلك الطّقوس طقس الميسِر الاستمطاريّ.
ولئن كان العرب في مبدأ الاحتفال بموعدي زواج الآلهة وولادة الابن الإلهيّ المقدّس متابعين لما ساد في عموم المنطقة العربيّة القديمة على اختلاف شعوبها ودياناتها، فإنّ بيئتهم الصّحراويّة جعلتهم يوائمون بين مقتضيات الدّين ومقتضيات الاجتماع البدويّ، فعملوا على جعل تلك الأعياد موافقة لمواسم تحضّرهم وأسبلوا عليها من القداسة ما جعلها فترات سلم يحرّم فيها كلّ اقتتال، بل وفرصة للتّلاقي وتبادل الخيرات، وهو ما جعل تلك المواسم بحقّ مواسم تعارف بين القبائل وتبادل للسّلع والمعارف تقام فيها الأسواق التّجاريّة ويزدهر فيها التّبادل اللّغوي بما فسح المجال لبروز لغة عربيّة أدبيّة موحّدة هي لغة التّبادل المعرفيّ (عبر تناشد الأشعار والخطب) ولغة التّبادل التّجاريّ، وهو ما كان من شأنه أن يمهّد لبروز وعي بوحدة الأصل والمصالح والمصير سيكون له بالغ الأثر في بروز وحدة سياسيّة جامعة للقبائل مع ولادة الإسـلام.
وبما أنّ انطلاقة موضوع بحثنا كان مدارها المسألة السّياسيّة بين «الجاهليّة» والإسلام، ركّزنا عملنا في مرحلته الأخيرة حول البعد السّياسيّ المفترض في الميسِِر، وخصّصنا الباب الخامس لبحث هذا الأمر. وبما أنّ إحدى ميزات الدّول عبر التّاريخ احتكارها العنف الشّرعيّ في المجتمع، فقد اتّجهنا إلى بحث مسألة العنف في المجتمع الجاهليّ في ظلّ غياب دولة تقوم على شؤونه، وممّا شجّعنا على ذلك كثرة ذكر الحرب في الشّعر الجاهليّ مقترنة بالميسِر. وقد بيّنا في هذا الإطار تهافت المقالين الطّبيعيّ والاقتصاديّ في العلوم الإنسانيّة حول هذه المسألة، موضّحين أنّ الحرب كانت بنية في المجتمعات البدائيّة لا لأنّها مجتمعات دون دولة تحتكر وسائل العنف فيها، بل لأنّها مجتمعات ضدّ الدّولة، وهو ما يجعل من الحرب الدّائمة والشّاملة ضدّ الآخر القريب والبعيد أداة فعّالة في تأكيد الاستقلاليّة وعدم الخضوع للآخـر.
كما أوضحنا أنّ الميسِر كان وسيلة تفريج عن عنف مكبوت داخل الجماعة توجّه فيه العدوانيّة المكبوتة نحو الأضاحي التي يتقاسم الجميع لحومها، لكن مع وجود تفاوت في المكانة بين المتياسرين والأعران، فهو من هذه النّاحية وسيلة لإعادة إنتاج علاقات القوّة على المستوى الدّاخلي للعشيرة. أمّا العنف الملاحظ بين المتياسرين أنفسهم فقد كان بديلا رمزيّا عن حرب خارجيّة مؤكّدة وشاملة ضدّ الجماعات الأخرى أي أداة صراع سياسيّ تجاه الخارج، فهو من هذه النّاحية وسيلة لإعادة إنتاج علاقات القوّة على المستوى القبلـيّ.
ومن هنا، أمكننا النّظر إلى مسألة الزّعامة في المجتمع الجاهليّ من وجهة نظر جديدة تجعل أحد شروطها وجوب توفّر عنصر القدرة عند الزّعيم على حماية العشيرة سواء بالحرب في مواجهة الجماعات الأخرى أو بلعب الميسِر وبذل أقصى درجات الكرم والجود في القحط وأوقات الجدب. ذلك أنّ الجماعة «الجاهليّة» من خلال اشتراطها البسالة في الحروب والكرم في السّنون واللّزبات، إنّما كانت تهدف إلى ضمان إعادة إنتاج نفسها عبر الحرب الشّاملة الّتي تحفظ وحدتها الدّاخليّة واستقلالها الخارجيّ من جهة أولى، وعبر المَيْسِر بوصفه الحافظ من التّلاشي البيولوجي والمانع من الذوبان في الآخر من جهة ثانية، وبالتّالي فهدفهما واحد ألا وهو زيادة التّلاحم الدّاخليّ والتّمايز مع الخارج معًا، فهما من هذه النّاحية وجهان لعملة واحدة، ألا وهي منع انبثاق الدّولـة.
كما توصّلنا إلى إثبات وجود تحييد كامل للكهنوت الجاهليّ على المستويين العسكريّ والسّياسيّ، وأنّ طقس الميسِر كان «حلبة مواجهة سياسيّة» بين الزّعماء داخل كلّ قبيلة، وأنّه كان يهدف فيما يهدف إلى استفراغ الأحقاد النّاشئة بينهم بفعل إرادة كسب ما يسمّيه العرب «السّؤدد» أو «الشّرف» أي اكتساب «رأسمال رمزيّ» مقابل إهدار جزء من «الرّأسمال الماديّ» يخصّص لمصلحة الجماعة. فقد كان الميسر يفرز زعامات جديدة كلّما اختلّ التّوازن الدّاخليّ للجماعة من خلال «اصطفاء إلهيّ». فقد كان الميسِر بحقّ «إواليّة لفرز زعامات دون سلطة» إذ «لا حكم إلاّ للآلهة» فهي من يصطفي الزّعماء، ولا مزيّة لأيّ بشر حيّ على الفقراء، فما اكتسبوه من أقوات هو منّة من الآلهة وهو ديْن تجاه الأسلاف الذين أبدعوا الميسِر الكفيل بإطعام الجماعة من جوع وتأمينها من خوف، وسطّروا من الشّرائع ما يحفظ «لقاحيّة» القبيلة.
ولئن كانت كلّ المجتمعات «البدائيّة» تتعوّذ من الدّولة بطائفة من الطّقوس يأتي على رأسها ما اصطلح الأنّاسون على تسميته «البوتلاتش» الذي كان الميسِر يمثّل شكله العربيّ في المجتمع «الجاهليّ»، فإنّ جعل بعض الدّراسات «البوتلاتش» في أصل «مؤسّسات الضّمان الاجتماعيّ» الحديثة أدّى بنا إلى النّظر في إمكانيّة أن يكون الميسِر» في أصل ما يمكن اعتباره «مؤسّسة ضمان اجتماعيّ» في الإسلام، أي «مؤسّسة الزّكاة». وفي هذا السّبيل، عملنا على تفكيك مفهومي «الصّدقة» و«الزّكاة» وحاولنا تتبّع أصل التّسميتين منتقدين من رأى فيهما امتدادا لتقليد كتابيّ قديم (يهوديّ تحديدا) وأثبتنا أنّ كلا المفهومين امتداد لتقليد عروبيّ عتيق يضرب بجذوره في التّراث البابليّ والكنعانيّ الذي استمدتّ منه اليهوديّة ثم المسيحيّة مفهوم الصّدقة لا غير، إذ لم تعرف كلاهما مفهوم «الزّكاة»، وبيّنا أنّ «مؤسّسة الزّكاة الإسلاميّة» امتداد طبيعيّ لـ«مؤسّسة الميسِر الجاهليّ»، إذ هما يشتركان في جملة عناصر بنيويّة وأخرى وظيفيّة تدفع إلى القول بوجود تواصل بينهما:
- فكلاهما عبادة تطهّريّة وركن أساسيّ من أركان الدّين يمارس حوليّا ويعتمد مفهوم «الحقّ» الواجب للفقراء في أموال الأغنياء خشية العقوبة الإلهيّة.
- وكلاهما ذو طابع اجتماعيّ يعتمد أساسا إطعام الفقراء ممّا يقوّي عصبيّة الجماعة قبيلة كانت أو أمّة.
- وكلاهما ذو طابع اقتصاديّ يعتمد مبدأ إعادة توزيع فائض الإنتاج من الخيرات الماديّة داخل الجماعة قبيلة أو أمّة لتقليص الفوارق الاجتماعيّة صلبها.
- وأخيرا، فإنّ كلاهما ذو طابع سياسيّ إذ تعترف القبيلة من خلال الميسر بأحقيّة المياسرين المؤدّين لحقّها عند الأزمات في قيادتها حسب «العرف» فيما تعترف الأمّة من خلال الزّكاة بأحقيّة السّلطة السّياسيّة القائمة على جمعها وإعادة توزيعها منعا للأزمات في قيادتها حسب «الشّـرع».
وقد أدّى هذا الفهم لما يتضمّنه الميسِر من بعد سياسيّ إلى النّظر في موقف الإسلام منه، فتبيّن لنا أنّه اتّخذ ثلاث صيغ بحسب ثلاث لحظات تاريخيّة مفصليّة في مسيرة استكمال الإسلام تشكّله دينا، وتجسّده في «أمّـة».
وكانت اللّحظة الأولى هي لحظة التّأثيم في سورة البقرة حوالي السّنة الثانية للهجرة مع ولادة «أمّة» إسلاميّة جديدة في يثرب بوصفه ممارسة سياسيّة لا تعترف بالزّعامة إلاّ لمن تختاره الآلهة أي ذات طابع «تعدّدي» بتعدّد الزّعامات القبليّة وبالتّالي ذات طابع «لقاحيّ» مضادّ للتّوحيد السّياسيّ، أي مضادّ للكيان الجديد الذي يريد الإسلام صوغه أي «الدّولة».
ولئن تميّزت هذه اللّحظة بالخصوص بتأثيم الميسِر دينيّا فقد اعترفت أيضا بمنافعه الاجتماعيّة الاقتصاديّة للنّاس في سياق حضّ شديد على الإنفاق لفائدة الأقارب والفقراء بلا حساب في إطار ما سمّاه القرآن «إنفاق العفو»، وهو ما كان يعني الحضّ على تجنّب الميسِر لما فيه من بعد دينيّ «وثنيّ» والحفاظ على ما كان يضمنه من «منافع» تضمن ما كان يحقّقه الميسِر على المستويين الاجتماعيّ والاقتصاديّ من حيث إعادة توزيع الثروة في المجتمع الجديد على أسس مخالفة لتلك التي كانت قائمة في المجتمع «الجاهليّ».
أمّا اللّحظة الثانية، فهي لحظة التّحريم التي ستعيّنها سورة المائدة حوالي السّنة الخامسة للهجرة، وقد تميّزت بوصول الجماعة الإسلاميّة إلى درجة من التّماسك أضحت معها «أمّة» متعيّنة في واقع الجزيرة العربيّة وتريد تجسيد إرادتها في «دولة» تنظمّ شؤونها وتسهر على الحفاظ على مصالحها المتميّزة عن مصالح «المجتمع الجاهليّ»، وهو ما حتّم القطع الباتّ مع طقوسه.
وقد لفت الانتباه أن يشرّع القرآن في نفس سياق هذه الآيات جملة من «الكفّارات» المتعلّقة بوقوع المسلم في أخطاء تعبّدية إجرائيّة من قبيل كفّارة الظّهار والإفطار في رمضان وعدم حلق الشّعر في الحجّ والنّذر لكن وخاصّة كفّارة اللّغو في الأيمان بوصفها من باب الحلف بغير الله والاعتراف بالرّبوبيّة لغيره، وهي «الكفّارات» التي اتّخذت صبغة التصدّق على الفقراء بما يعنيه ذلك من بداية تأسيس ممارسة بديلة هي «الصّدقة» متّصلة بـ«التّوحيد الدّينيّ والسّياسيّ»، أي الرّبط بين التعبّد للواحد والإنفاق في سبيله، وبين التّوحيد الدّيني وتوحيد الجماعة من خلال الصّدقات التي يمكن اعتبارها باختصار «إنفاق الأمّة من أجل الدّولـة».
وقد كان من شأن تحريم الإسلام للميسر حدوث فراغ مؤسسيّ داخل التّشكيل القبليّ. وبما أنّ الإسلام تفادى المساس بالقبيلة كأساس للعلاقات الاجتماعيّة المؤسلمة، فقد عمل على ملء ذاك الفراغ بإحداث مؤسّسة بديلة عن الميسر تقوم مقامه في الحفاظ على التّماسك الاجتماعيّ الضّروريّ ، وهو ما تمّ بإعلان قيام «مؤسّسة الزّكاة» في شهر رجب من السّنة التّاسعة للهجرة، حيث نزلت الآيات المشرعّة للزّكاة في سورة التّوبة أثناء قيام النّبيّ بغزو الرّوم في تبوك، أي تحديدا في نفس الفترة من السّنة التي كانت تشهد قيام طقس الميسِر وفي ظرف دقيق كان يستدعي تلك العلاقة التي سبق أن حلّلناها بين الميسِر والحرب، وهو ما يجعل من «الزّكاة» بحقّ «البديل الإسلاميّ للميسِر» إذ كان تشريعها في تلك اللّحظة بالذات تلبية لأحد المطالب الملحّة للدّولة الإسلاميّة النّاشئة وهو تجهيز جيش لصدّ عدوان خارجيّ عن الجماعـة.
وقد بدا لنا من خلال تحليل ما تورده السّيرة النّبويّة حول ما سبق غزوة تبوك أنّ خروج النّبيّ إلى تبوك ربّما كان من باب المناورة السّياسيّة لتهيئة الظّروف المناسبة لفرض «الزّكاة» على المسلمين و«الجزية» على غيرهم بهدف توفير موارد دائمة للدّولة الوليدةوهو ما يقود إلى اعتبار الأمرين معا من طبيعة سياسيّة، فقد كان مستقبل الإسلام بوصفه دينا مرهونا بموت «الدّيانة الجاهليّة» وهو ما يعني القضاء على معتنقيها بإحدى سبيلين، إمّا بالحرب (وهذه تموّلها الزّكاة والجزية) أو بقبولهم الدّخول في «الدّين الجديد» والاندماج في «الأمّة النّاشئة» بما يفرضه ذلك من القبول بشرط دفع الزّكاة، أي تمويل الدّولة ودعم ما عمل الأسلاف منذ أوّل الدّهر في سبيل عدم ظهـوره!.
فـي الـنّـتـائـج:
وأخيرا، فإنّه يمكن أن نذكّر بأهمّ ما توصّلنا إليه من نتائج مباشرة وهي:
- أنّ الدّين هو المشكّل تاريخيّا لإمكان نشوء الدوّلة. إلاّ أنّ الاطمئنان إلى هذه النّتيجة النّظريّة العامّة حول اكتساء الدّولة طابعا دينيّا بحكم منشئها من رحم الدّين، لا ينفي حرارة الشكّ وبالتّالي السّؤل التّالي: هل يقتصر الأمر على وظيفة يؤدّيها الدّين في لحظة تاريخيّة معيّنة لينسحب بعدها تماما، أم هو يظلّ على تخوم الدّولة مراقبا تصرّفاتها من خلال المجتمع الذي ارتضى التنظّم بإرادته في إطار دولة، شرط أن ألاّ تحيد الدّولة عن المبادئ العامّة التي أسّسها الدّين وأنشأ الدّولة منها وعليها ومن أجلهـا ؟
- أنّه لا يمكن تمثّل الدّينيّ بمعزل عن شكله السّياسيّ أو مضمونه الاجتماعيّ، وهو ما يمكّن من القول إنّ نجاح الإسلام يعود في شطر منه إلى ما أبداه من قدرة على استيعاب مبدأ إسناد السّلطة السّياسيّة (بمعنى الإشراف على الانتظام الاجتماعيّ) إلى المنظومة العرفيّة التي سنّها الأسلاف الغابرون المؤسّسون للجماعة، وذلك بضرب من التّماهي مع هذا المبدأ واستبطانه حين جعل الوحيُ النّبيّ مبلّغا عن المتعالي المفارق للجماعة. إلاّ أنّ هذه الاستراتيجيّة لئن كانت تهدف على المدى المباشر المنظور إلى مسايرة مبدأ «اللّقاحيّة» العربيّ بجعلها حقّ التّشريع حكرا على الغائب، فإنّها كانت تهدف بلا شكّ في مداها المستقبليّ البعيد إلى الالتفاف عليه. فبعد أن كان «الدّين في نسخته الجاهليّة» ضامنا لمبدأ «اللّقاحيّة» بإسناده حقّ التّشريع للغائب (الأسلاف الأموات)، فإنّه سيضحي منذ سماحه «في نسخته الإسلاميّة» لبشر حيّ وهو «النّبيّ» التكلّم باسم الغائب، هادما له.
- أنّ الاستراتيجيّة التي سمحت بأن يغدو النّبيّ صاحب سلطة أو بالأحرى «صاحب السّلطة»، قد تشكّلت مند أن ارتضت الجماعة الجديدة (الأمّة) أن تكون أقواله وأفعاله مبادئ فعل وقواعد سلوك اجتماعيّة لا بدّ على المؤمنين اتّباعها، وبذلك انقلب الدّين على نفسه وسمح بانبثاق نصاب منفصل عن المجتمع هو ما سيغدو مع الأيّام ما نسميّه الدّولـة.
- أنّ التّحريم الذي مارسه الإسلام النّاشيء بواسطة الخطاب القرآنيّ – بوصفه الوسيط الذي حوّل العمل التّنظيميّ والسّياسيّ للنّبيّ إلى نموذج مثاليّ أعلى يتجاوز التّاريخ أو يخترق التّاريخ– كان أحد الأدوات (وهي أدوات دينيّة شكلا وتشريعيّة مادّة واجتماعيّة هدفا، وبالتّالي سياسيّة شكلا ومضمونا وهدفا) التي استخدمها الفعل الإسلاميّ ممارسة وخطابا بهدف تغيير الواقع «الجاهليّ». فقد استهدف الفعل الإسلاميّ في مرحلة أولى أي خلال المرحلة المكيّة من الحركة المحمّديّة، البنى الذهنيّة لـ«الجاهليّين»، ليباشر في مرحلة ثانية مع تكوّن «الأمّة» في يثرب ضرب مؤسّسات المجتمع المراد تغييره وكان من بينها «مؤسّسة الميسِر»، وهو ما سمح في مرحلة ثالثة وأخيرة أي خلال ما يمكن اعتباره مرحلة التمكنّ بتعويض المؤسّسة المحرمّة بأخرى جديدة لكن مع الاحتفاظ دوما بنفس «منافع» المؤسّسة القديمة (بالتّعبير القرآنيّ) مع تحويل هدفها السّياسيّ غير المعلن وهو «اللّقاحيّة» إلى هدف سياسيّ معلن وهو «الإسلام» بكلّ ما يعنيه هذا اللّفظ من معان لكن بخاصّة معناه اللّغويّ المباشر أي «الإذعان لله» ومن ورائه «الإذعان للدّولـة».
وقد يكون من نافلة القول التّأكيد بأنّ التّحريم الذي ألقى به الإسلام على المجتمع «الجاهليّ» – بما في ذلك تحريم المَيْسِر– إنّما كان يرمي إلى إفراغه من محتواه في سبيل بناء منظومة جديدة تعتمد الدّين أيضا وهي منظومة «التّوحيد الإسلاميّ» في جميع المناحي الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدّينيّة والسّياسيّة، وهي المنظومة التي تراءى لنا، بشيء من التسّرع ربّما، أنّه كتب لها أن تكون – بفعل «زور التّاريخ» في معناه الهيغليّ– أساسا لانبثاق الدّولة لأوّل مرّة في صلب مجتمع كان وجوده مرتكزا بالدّرجة الأولى على محاربة كلّ إمكانيّة لذلك مستعينا بالدّين، فقد كان الدّين نقطة ضعف المجتمع «الجاهليّ» رغم أنّه كان أكبر ضامن لعدم انبثاق دولة، وهو ما استغلّه الإسلام لينشىء دولته من رحم مجتمع كانت سمته الأساسيّة أنّه «مجتمع ضدّ الدّولـة» !.
أمّا النّتائج غير المباشرة فتتلخّص في:
- أنّ الشّعر الجاهليّ وإن كان مدوّنة جماليّة فنيّة، فهو بحقّ ديوان العرب ومستودع علومهم ومدوّنة أخبارهم على ما يقول الجاحظ، وهو ما يسمح بالقول مع يوسف شلحد إنّ «الشّاعر الجاهليّ، باستثناء حالات نادرة، لم يكن يمتلك إلاّ الشّكل فحسب في قصيدته، وأنّ المضمون لم يكن إلاّ مضمون الوعي الجمعيّ»، وأنّه يمكن للباحث الاطمئنان إليه إذ لا يمكن لمعظم الشّعر الجاهليّ أن يكون منتحلا كما يزعم طه حسين مثلا، ولا يمكن لشعراء الحقبة الإسلاميّة مهما تواطؤوا أن يتفطّنوا إلى بعض دقائق الميسر ولطائفه ناهيك عن الاتّفاق في الرّوايات.
- أنّه بات من الضّروريّ اعتماد التّحليل الإناسيّ لجملة من المسائل المتعلّقة بتاريخنا بما يمكّن من تسليط أضواء جديدة على بعض المصادرات التي انبنت عليها ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة على غرار ما حاولناه من خلال هذا البحث المتواضع.
نٌشر في موقع الأوان بتاريخ الأحد 15 آذار (مارس) 2009





Commentaires