top of page

الجدال فيما بين الديني والسياسي من اتّصال أو انفصال

نُشر هذا العمل ضمن العدد السابع من مجلّة ألباب - مجلّة محكّمة في الدين والسياسة والأخلاق، خريف 2015، صص 76-97.


تقديم

يدخل هذا الجدل في إطار نقاش كبير بشأن الهويّات القوميّة في أوروبّا التي تشهد إعادة تشكّل لا يمكن تجاهل البعد الديني فيها، وهو ما يمكن اعتباره لحظة تأسيس جديدة في رأي بعض الباحثين لا مندوحة من تحليل تخلّقها ومسار تفاعلات مختلف الأنظمة الاجتماعيّة التي أدّت إليها، بما في ذلك الدين والسياسة.

إنّه الجدل الذي كانت ساحته المجلّة الفكريّة الفرنسيّة الراقية الصادرة عن "الحركة المضادّة للنّفعيّة في العلوم الاجتماعيّة" (Mouvement Anti-Utilitariste en Sciences Sociales) التي تستلهم نظريّة عالم الاجتماع الكبير مارسيل موسّ (Marcel Mauss) في الهبة، وتصدر منذ سنة 1981 متخصّصة في العلوم الاجتماعيّة تحت إدارة عالم الاجتماع آلان كاييه (Alain Caillé) ، وقد اتّخذت من لقبه (Mauss) اسماً لها لتوافقه مع فواتح الكلمات المكوّنة لاسم الحركة (M.A.U.S.S).

وقد بدأ الجدل حين تقدّم كاييه باقتراح ثمانية عشر أطروحة حول تمفصل الديني والسياسي أكّد فيها أنّ الديني السياسي هو لحظة تأسيس المجتمعات لنفسها برهة تعقّلها ذاتها بصفتها تلك، وحينها يمكن للبشر أن يتواصلوا فيما بينهم ومع العالم بواسطة العلامات والرموز، من خلال الفعل السياسي المحيل إلى العنف، ومن خلال الفعل الديني عن طريق الطقوس (جانب الممارسة) والسرديّات الكبرى (جانب الرمزيّة). فالأمران لا ينفصلان مطلقاً: وجهان لعملة واحدة.

وقد اثارت هذا الأطروحات ردود فعل في الساحة العلميّة الفرنسّية مع بداية الألفيّة الثالثة، فانبرى الفيلسوف السياسي مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet) إلى الردّ عليها، معتبراً أنّ السياسي يمكن أن يوجد بمعزل عن الديني وخارج الأديان، مستشهداً على ذلك بمثال الحداثة في أوروبّا، ونافياً أن يكون الديني مؤسِّساً، إذ أنّ المجتمعات يؤسّسها السياسي كما يبيّن، فيما يقتصر الديني سوى تحديد هذا النمط من الكينونة السياسيّة، ويقدّم لها تفسيراً سياقيّاً ويضفي عليها طابعاً مؤسسيّاً.

وتفاعلاّ مع ردّ غوشيه، أعاد كاييه صياغة أطروحاته لتغدو 43 أطروحة، هي من أرقى ما كتب إلى حدّ ذاك الآن في تفصيل مسألة تشابك الديني والسياسي في مسار تشكّل المجتمعات، وتحليل ما تعانيه المجتمعات الغربيّة الراهنة جرّاء وهم فصل الديني عن السياسي الذي أدّى إلى تفكيك الدين والسياسة معاً، وولّد "انتصار الاقتصادي" حسب كاييه، وأدّى إلى "تجرّد العالم من إنسانيّته" على ما يرى غوشيه.

وبين هاتين الرؤيتين، تتبدّى لنا أهميّة ما يطرحه الرجلان، فهو بلا شكّ في قلب ما يعتمل في الواقع العربي الراهن، في انتظار من ينبري لتوضيحه، تأسيّاً بما تقوم به النخب في الأمم المتيّقظة، وهو مناذ ترجمتنا لهذه النصوص الثلاثة المتميّزة.



السياسي- الديني: سبعة عشر أطروحة جنينيّة (زائد واحدة) مكتوبة بروح تموقع سوسيولوجي (*)

بقلم: آلان كاييه (Alain Caillé)

أطروحة رقم 1

لنميّز الديني عن الدين. الديني هو للدين، ما هو السياسي للسياسة.

أطروحة رقم 2

يشكّل الديني والسياسي معاً لحظة التأسيس التي ترتبط فيها المجتمعات بنفسها وتتشكّل بصفتها تلك، في فرادتها وفي تجاورها، عن طريق رسم حدود بين الداخل والخارج، بين الأعداء والأصدقاء، بين الممارسين وغير الممارسين أو بين الكفّار والمؤمنين. وجهان متعارضان لعملة واحدة، يختلفان بخاصّة في أنّ اللحظة السياسيّة البحتة تحيل إلى الفعل – وإلى العنف-، في حين يتصرّف الديني عن طريق الرموز، أو بالأحرى عن طريق الرموز الفائقة (أو الرموز الكبرى).

أطروحة رقم 3

لنطلق على هذه اللحظة المؤسّسة اسم: السياسي- الديني.

أطروحة رقم 4

عند تقاطع الديني والسياسي، نجد من جهة، الطقوس (جانب الممارسة)، ومن الأخرى السرديّات الكبرى (جانب الرمزيّة).

أطروحة رقم 5

موضوع السياسة هو الغزو وإدارة السلطة المركزيّة والعامّة داخل المجتمع. الدين يستهدف السيطرة على المعتقد والطقوس والمعارف العامّة داخل المجتمع. السياسي- الديني يختصّ بالقدرة على تأسيس المجتمع بصفته تلك، داخل حدوده، مقابل خارجيّة وغيريّة - الأعداء، ماضيه، مستقبله أو ما يمكن أن يكونه. إنّه يعطي المجتمع هويّته المحدّدة في علاقتها بغيريّة متعيّنة وغيريّة غير متعيّنة.

أطروحة رقم 6

بما هو لحظة مؤسّسة للمجتمع، يتميّز الديني- السياسي عن بقيّة أنظمة العمل الاجتماعي المؤسَّسة: النظام الاقتصادي، والسياسة، والدين، والفنّ، الخ...

أطروحة رقم 7

داخل كلّ هذه الأنظمة المؤسَّسة، يتواصل البشر فيما بينهم ومع العالم بواسطة العلامات والرموز. العلامات تعيّن الأشياء كما هي، وهي تشير إلى أشياء العالم المدركة في تفرّدها وعدم ديمومتها، وتنتظم ضمن خطابات. أمّا الرموز، فهي علامات للعلامات، أي تآلف علامات تشير إلى التحالف بين البشر، وهي التي تحدّد شروط استخدام العلامات من خلال تحديد من منها ذات معنى. فهي تخصّ العلاقات بين العلامات. وتنتظم ضمن سرديّات. والرموز الكبرى تحدّد شروط استخدام الرموز. وهي تخصّ العلاقات بين العلاقات. فهي رموز مؤسِّسة. وهي تنتظم ضمن سرديّات فائقة. لذلك دعونا نسمّيها الرموز الكبرى. يتّصل الديني بأصل الرموز الكبرى - أو رموز الأصل – التي تطبع الوحدة الفريدة للمجتمع، في الحاضر أو في المستقبل.

أطروحة رقم 8

كما يدير السياسي الهيمنة الشرعيّة عبر هيكلة اللحظة المؤسّسة للسياسي، كذلك يسعى الديني إلى احتكار المعتقد والعمل الطقوسي والمعرفة الشرعيّة عبر هيكلة اللحظة المؤسّسة للديني.

أطروحة رقم 9

ينبغي أن نضيف كذلك أنّ مسألة احتكار المعرفة والمعتقد، مثلها مثل مسألة احتكار السلطة، لا تنشأ إلاّ حين تدّعي عدّة معتقدات أو عدّة سلطات الشرعيّة وتدخل في تنافس. هذا ليس هو الحال في المجتمع الأوّل، حتّى أنّه لا وجود للدين أو السياسة بالمعنى الدقيق للكلمة إلاّ في الديانات الكبرى والأنظمة السياسيّة الكبرى.

أطروحة رقم 10

يتجلّى السياسي- الديني على ثلاثة مستويات. مستوى أفقي مجالي يرسم الحدّ بين الهنا والهناك والمكان الآخر (الأقارب والأصدقاء، الحلفاء والأعداء، الأجانب). ومستوى رأسي وعابر للزمن، يرسم الحدّ بين الحاضر والماضي والمستقبل، بين الأصول والفروع، بين الأسلاف الموتى والأجيال القادمة. ومستوى قُطريّ (Diagonal)، يرسم الحدّ بين عالم الشهادة وعالم الغيب المتجاوز للمعقول وللزمن من جهة، وبين عالم الدنيا وعالم الآخرة من جهة أخرى.

أطروحة رقم 11

يمثّل العطاء الأداة الخاصّة للمؤسِّس. وهو أيضا ثلاثي الأبعاد: عطاء للأعداء بقصد تحويلهم إلى حلفاء، عطاء ما بين الأجيال، وعطاء لممثّلي عالم الشهادة أو ممثّلي عالم الغيب. إنّه هو ما يعمل على الانتقال من الشكّ إلى اليقين، من العداء إلى السلام، من الأنانيّة إلى الإيثار، من الانعزال والنبذ إلى التحالف، من الموت إلى الحياة، من العُرْف والإكراه أو القانون إلى الحرّية والفعل والإبداع.

أطروحة رقم 12

كما أنّ العطايا رمزيّة، بمعنى أنّها تجعل نيّة السلام والحياة ظاهرة ومرئيّة، ويجب بالتالي أن (تُعطى) كي تُرى، كذلك تخدم الرموز مسرحة (mise en scène) العطايا واحتفالاتها. المجتمعات (أو بتواضع أكثر وبشكل أعمّ، العلاقات الاجتماعيّة) لا توجد إلاّ بقدر ما تُعطي كي تُرى (وتُسمع، أيضاً، وفي وقت لاحق، لكي تُقرأ)، وتقوم الرموز والسرديّات (وكذلك العروض والطقوس) بمسرحتها. يستهدف الدين احتكار التمثيلات الأكثر عموميّة لترائي المجتمع، عند تقاطع الديني والسياسي. السياسي- الديني هو ترائي (Selbstdarstellung) المجتمع لنفسه، لحظة اختيار المجتمع لنفسه بنفسه.

أطروحة رقم 13

الفلسفة تستدلّ بالعلامات على الرمزيّة وعلى ما وراء الرمزيّة (الديني). الأساطير أو الحكايات تستدلّ بالرموز، والدين يستدلّ بالرموز الكبرى.

أطروحة رقم 14

بصفته طريقة لتوليد الرموز والسرديّات التي تضفي المعنى، أي رمز الرموز، فإنّ الديني مرتبط بالتالي بشكل مباشر بـ"الذهنيّات" و"الثقافة" أو "الحضارة". ولكن هذه ليست في ذاتها "دينيّة". فلنميّز بالتالي بين أربعة دوائر:

• الدالّ، عالم العلامات والدلالة الصريحة (الثقافة التقنيّة والمادّية)؛

• الرمزيّة، عالم الرموز والعلاقات ذات المعنى بين العلامات، عالم الدلالة الضمنيّة (الثقافة الثقافيّة)؛

• الرمزي، عالم توليد الرموز (علاقات العلاقات)، أو المعنى (الابسمتية، الذهنيّات)؛

• الديني، لحظة تطابق الرموز مع غيريّتها، ومع الرمزي في ذاته.

الحضارة هي تعدّد ثقافات متنوّعة ومتعارضة، يوحّدها استنادها إلى ديني واحد جامع وشامل.

أطروحة رقم 15

مسألة التعالي لا تنفصل عن مسألة الغيريّة (وبالتالي مسألة الهويّة). التعالي هو في رحم الهويّة ما يُعليها ويؤسّسها. التعالي هو في ذات الوقت ما يكمّلها وما يبثّها.

الغيريّة-التعالي هي غيريّةُ تعالٍ 1) عن الطبيعة والكون 2) عن الآخر العدوّ-الغريب، 3) عن الأجيال الماضية والآتية، 4) عن الخارق الروحي (الرمزي بصفته تلك). ينشأ الديني من خلال علاقته بهذا التعالي الرباعي.

أطروحة رقم 16

الغيريّة المتعالية هي دائماً مُجَنْسَنَة-مُجَنْدَرَة (sexuée –genrée).

أطروحة رقم 17

يطرح الديني مسألة علاقة الذوات بالحيوانيّة/الروحانيّة، وبالصداقة/العداء مع الذات أو مع الآخرين، في أصلها ومآلها. وبشكل أعمّ، يثير ما وراء الرمزيّة (métasymbolisme) مسألة أصل القانون ومعنى الموت، وأصل الحياة والممكنات من أجل الحرّية، والانسجام والصراع بين الكائنات.

أطروحة (ـات) حول الجيرارديّة الإناسيّة ([1]):

الجيرارديّة الإناسيّة ترتكز على تعريف الديني والأضحوي. ما يمكّننا من القول بأنّ:

• للسياسي- الديني بالضرورة ما يراه وما يفعله في مسألة العنف والعداء، ولكنّه لا يتضمّن بالضرورة حلاًّ تضحويّاً للعداء.

• على كلّ مجتمع أن يتمثّل نفسه، أن يتخارج ويصوغ صورته على صورة بعض الشخصيّات المرموقة، ولكن هؤلاء ليسوا بالضرورة ضحايا منذورين مفترضين. أو بالأحرى: المنطق الرمزي للمعاملة بالمثل يكفي في كثير من الأحيان لتفسير عودة العنف ضدّ أولئك الذين يحتلّون موقع سلطة؛

• نعم، المجتمعات غالباً ما تسقط في نظام تضحوي لتقديم كبش فداء، ولكن 1) لا ينبغي الخلط بين التضحية بالأعداء والتضحية بالنفس أو الأصدقاء، أي التضحية الذاتيّة، و2) يجب تحليل التضحية بوصفها تشويهاً للعطاء وللحرب ومفاقمة لهما، وليس باعتبارها حقيقتهما الجوهريّة والأولى.

هامش

كتبت معظم هذه السطور بمناسبة يوم نقاش نظّمته "مجموعة دراسة ومراقبة الديمقراطيّة" (GÉODE) في جامعة باريس العاشرة- نانتير يوم 8 مارس 2002 حول موضوع: "ما هو الدين؟".

استعادت هذه الدورة عنوان كتاب شموئيل تريغانو (Shmuel Trigano) (ما هو الدين؟)([2])، ودارت جزئيّاً حول تحليلاته. هذه الأطروحات التي كتبتها في عجلة من أمري، كانت (وما تزال) تستهدف أساساً أغناء النقاش في سبيل توضيح مفاهيمي أصبح من الواضح بشكل متزايد أنّه لا يمكننا التغاضي عنه إلى ما لا نهاية. كنت أفكّر في الاحتفاظ بها طيّ الكتمان بعض الوقت إلى أن تنضج بعد أن أضعها على نار نقد المختصّين وأصدقائي (يجتمع الاثنان أحياناً في نفس الشخص)، بهدف إثرائها بأمثلة ملموسة تكمّل ما قد يعتريها من نقص فادح.

وقد أثار فيّ نشر مقال مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet)، الذي يتناول نفس القضايا، الرغبة في نشرها دون تأخير على الرغم من عيوبها الصارخة، على الأقلّ من أجل دفع النقاش معه، ودعوة الآخرين إلى الانضمام إلينا. وقبل البدء في هذا النقاش بشكل جدّي، يجب أن أقول كلمة حول منطلقاتها، وممّ تغذّت، والاعتراف كذلك بديوني. سيرى البعض في هذه الأطروحات امتداداً منطقيّاً أو استئنافاً لأفكار سبق عرضها حول مفهوم السياسة أو إناسة الهديّة في كتابي استقالة رجال الدين: أزمة العلوم الاجتماعيّة ونسيان السياسي([3])، وبخصوص الرابط بين السياسي والرمزيّة والعطاء في كتابي النموذج الثالث([4]). ولكن من المنصف والضروري توضيح أنّ التفكير في العطاء والرمزيّة لئن اتّبع مساره الخاصّ، فإنّ الأطروحات المقدّمة هنا حول السياسي- الديني تنخرط في مرجعيّتها ونقاشها مع أفكار كلود لوفور (Claude Lefort) القديمة التي استأنفتها وأيّدتها وطوّرتها بسرعة أفكار مارسيل غوشيه.

وأسارع بالقول إّنها تستأنف جزئيّاً النقاش المفاهيمي المحض الذي توقّف عنده كلود لوفور ومارسيل غوشيه في مقال مشترك "حول الديمقراطية: السياسي ومأسسة الاجتماعي" المنشور في دوريّة زخارف (Textures) في عدديها الثاني والثالث لسنة 1971 ([5]) وبقي دون أفق مفاهيمي منهجي صريح. غوشيه يستأنف هنا مباشرة بعض القضايا التي سبق أن طرحها آنذاك، وقد رغبتُ بدوري في الإدلاء بدلوي في هذا النقاش.

أشكر بحرارة روبرتا همايون (Roberte Hamayon) لإلقائها نظرة أولى عطوفة على هذه الأطروحات، وقد دفعتني بالفعل إلى إدخال مجموعة أولى من التعديلات التي ستعرّف عليها بسهولة.

* - العنوان الأصلي للمقال:

Caillé (Alain), « Le politico-religieux. Dix-sept (plus une) thèses embryonnaires écrites dans un esprit topique sociologique», Revue du MAUSS, 1/2002 (no 19), p. 304-308.






السياسي والدين. اثنا عشر اقتراحاً جواباً لآن كاييه (*)

بقلم: مارسيل غوشيه

I

لا وجود لسياسي- ديني. صحيح أن مجموعتي الظواهر تبدوان مرتبطتين على المدى الزمني الطويل، إن لم يكن على مدى معظم التاريخ، غير أنهما متمايزتان. السياسي والديني ليسا ظاهرتين من نفس المستوى، والمشكلة النظريّة هي إظهار تمايزهما انطلاقاً من تشابكهما التاريخي.


II

كما أنّه من الصحيح أيضاً في نفس الوقت أنّ طبيعة السياسي لا تتّضح بشكل جيّد إلاّ فى ضوء تمفصله مع الديني، كما أنّ الديني، في المقابل، لا يمكن تعقّله تماماً إلاّ انطلاقاً من تطبيقه على السياسي. وهذا سبب إضافي يدعو للتمييز بينهما، نظراً لترائي كلّ منهما في مرآة الآخر.


III

السياسي يمكن أن يوجد بمعزل عن الديني وخارج الأديان. وهذه تحديداً هي الوضعيّة التي صنعت الأصالة الأكثر عمقاً للحداثة.

إنها تتيح لنا إعادة النظر في طبيعة السياسي وتحليلها لذاتها. ويتعلّق الأمر في نفس الوقت بفهم لماذا تمّ غالباً ربط السياسي بالديني، ولماذا يمكنه أن ينفصل عنه في الأساس.


IV

تحدّد الديني طوال أكبر قسم من مساره بظروف تمفصله مع السياسي، وهذا ما انحلّ الآن، مدشّناً مساراً جديدة خارج رحمه الأبديّة.

وانطلاقاً من هذا الوجود المستقلّ، يتحتّم مساءلة روابطه السابقة مع السياسي. فإذا ما كانت اختياريّة، فهي ليست من نفس الطبيعة. وسيكون علينا التعامل مع الديني خارج السياسي.


V

السياسي مؤسِّس، والديني ليس كذلك، بل هو ما يضفي الطابع المؤسّسي.

السياسي مؤسِّس بهذا المعنى الأصلي بوصفه ما يسمح لمجتمع بشري بالتكوّن داخل ما يصنع خصوصيّة نمط كينونته. المجتمع ليس جسماً يملك تماسكه الطبيعي المعطى سلفاً، بقدر ما هو غير ناتج عن عقد مبرم بوعي بين أعضائه. المجتمع يتعلّق بالتأسيس، لأنه ينتج بذاته تماسكه وهويّته، ويعيد إنتاجهما باستمرار. ويمرّ هذا العمل المؤسِّس بمسار انفصالات تضعه في علاقة بذاته، هي ما يشكّل السياسي تحديداً.

يمكننا أن نقول بصيغة أخرى: المجتمعات البشرية سياسيّة - ممأسسة من قبل السياسي وموجودة سياسيّاً – وهي تتمتّع بصفتها تلك باستقلاليّة إجرائيّة. وهي منظّمة بطريقة تجعلها تخلق بنفسها ظروف كينونتها، وبطريقة تجعلها تتحكّم إجرائيّاً في نفسها. إنّها ليست كائنة، بل كوّانة نفسها، وهي بتكوينها لنفسها تؤثّر في ما تكونه.

يمكننا أن نقول أيضاً: السياسي هو ما يمدّ المجتمعات البشريّة بأكثر خصائصها قطعيّة وأكثرها غموضاً: تفكّرها السياقي.


VI

يمرّ هذا التفكّر السياقي غبر ثلاثة أنظمة علاقات تشكّل نسقاً ويفتح كلّ منها باباً خاصّاً لاشتغال المجتمع على نفسه: السلطة، والصراع، والمعيار. نحن في كلّ حالة من هذه الحالات إزاء انفصالات، انشقاقات واستخراجات، تنتج وضعيّات اتصال شاملة، وتخلق مجتمعاً قادراً على التحكّم عمليّاً في نفسه من خلال تعارضاته الداخليّة.

السلطة: الواحد يُغني، بشكل من الأشكال، عن الكلّ ويتحكّم في الكلّ (مهما كانت لاحقاً طرائق التحكّم). تنشأ سلطة سياسيّة حين يتخارج المجتمع مع ذاته من داخل العلاقات بين أعضائه.

الصراع: الجميع ينقسم حول ما يوحدّهم، حول ما يُظهر الكلّ الذي يشكّلونه انطلاقاً من التهديد الذي يخيّم عليه وما يُظهر حاجتهم إلى الاتفاق على ما يربطهم انطلاقاً من تنافرهم. الحيوانات تتصارع، والبشر يتعارضون، ومن خلال تعارضهم هذا يقيمون عالمهم المشترك.

المعيار: في ما يتجاوز العلاقات بين الناس، توجد قاعدة تفرض نفسها بكيفيّة متساوية على الجميع، وهي ليست ملكيّة أحد على وجه الخصوص. لا كينونة مشتركة دون اقتضاء عيش مشترك.


VII

الديني هو تحديد هذا النمط من الكينونة السياسيّة. وهو يقدّم لها تفسيراً سياقيّاً ويضفي عليها طابعاً مؤسسيّاً معيّناً. وهو من الناحية المنطقيّة لاحق عليها، إذ يتدخّل فيها وينطبق عليها بعد تشكّلها.


VIII

الديني يغدو ممكناً بفضل السياسي، بفضل هذا التفكّر السياقي الذي يضع الوجود الاجتماعي تحت سقف التحدّد الذاتي. هو يستغّل موارده، ويُظهر قواه، ولكن بطريقة خاصّة جدّاً، ألا وهي الإنكار. الديني هو علاقة معيّنة تبنيها الإنسانيّة مع نفسها، مفارقة لها في جميع أجزائها، وتعرّف الإنسانيّة نفسها من خلالها بعدم تعريف نفسها، لأنّها معرّفة من قبل آخرين من خارجها.


IX

الدين، في نشأته البدائيّة، هو موقف تجاه الاستقلاليّة الإجرائيّة التي تتأسّس من خلال السياسي.

الدين هو تعبير عن هذه الاستقلاليّة، وفي ذات الوقت موقف منها، وهو موقف يقتضي رفضها وطردها. الدين انحياز للخضوع، فهو يصنع بشراً خاضعين: نُدين بكلّ ما نحن عليه لكائنات ذات طبيعة مختلفة عن طبيعتنا. وهذه هي المفارقة التي يجب علينا التفكير فيها تحت مسمّى الدين. إنه يمثّل السرّ الأكبر للتاريخ البشري. الدين يشير إلى علاقة الإنسانيّة بذاتها، علاقة لا شيء يلزم الإنسانيّة بها (وهذا لا يعني أنّها غير ذات معنى)، والتي تقول الإنسانيّة من خلالها بوعي، عكس ما تقوم به عمليّاً. وكأنّ الإنسانيّة لم يمكنها إظهار قدرتها على تعريف نفسها إلاّ من خلال تأكيد حرمانها الميتافيزيقي.


X

تطبيق هذا الاختيار الديني على النواة المؤسِّسة للسياسي يحدث عليها تغييرات ويجعلها تتمظهر في شكل مؤسساتي. يمكننا، من أجل التمييز بين السجلات، الحديث عن إضفاء الطابع المؤسسي بخصوص هذا الانعكاس للاستقلاليّة المنخرط بالقوّة في السياسي، من خلال الخضوع الديني. هذا الإطار المؤسسي طابعه الأساسي، أو وجهه الأوّل، هو تحييد الانشقاقات أو المعارضات أو الانفصالات المتأصّلة في السياسي، لصالح وحدة أساسيّة بين البشر قائمة بفضل انفصالهم عن المتعالي وخضوعهم له. الواحد الأحد للبشر الأحياء المنظورين، الناتج عن الخضوع للآخر الخفيّ: هذا هو أساس الروح السياسيّة للأديان.


XI

من المناسب أن نتكلّم عن الدين وليس عن الديني لأنّ الأمر يتعلّق في هذه العمليّات بمضمون محدّد، بنظام اعتقاد وفكر محدّد، وليس بوظيفة ذات ملامح غائمة. الوظيفة لا يمكن فهمها بالكامل إلا إذا تمّ تحديد مضمونها. وبطبيعة الحال، فإنّه من الملائم والطبيعي والحتمي، بعد اكتمال الأديان في تعدّدها، الحديث عن الديني لمحاولة التعرف على الدور المشترك الذي تقوم به الأديان. ولكن بالنسبة للتحديد الأوّلي للظاهرة وجوهرها، يجب علينا الانتباه إلى أننا لا نتعامل مع وظيفة دائمة، بل مع قضيّة ومع موقف ذاتي بخصوص الذات. وتندرج هذه القضيّة في إطار التاريخ: كان يمكنها أن لا تكون، وهي لا تمليها الضرورة، وقد توقّفت على أن تكون، ولم يعد لها من معنى في مجتمعاتنا. ما تزال توجد معتقدات دينيّة، ولكن لم يعد لديها أيّ وظيفة سياسيّة بالمعنى القويّ الذي رأيناه. تجربة الدَّيْن والخضوع للمتعالي ما تزال متواصلة؛ وهي بصدد اكتساب معنى جديد بانحسارها كليّاً في المجال الشخصي أو الذاتي.


XII

الأديان هي تنويعات حضاريّة وتاريخيّة لهذا التحيّز للحرمان الذي يبرّر الحديث عن الدين. إنها تعدّل بصور مختلفة المضمون والنتائج، وهي تُظهر مساراً كان متّجهاً نحو الحدّ من غيريّة الأساس الفوطبيعي، وبالتالي نحو تأكيد السياسي. الأديان "البدائيّة" أو "الوحشيّة"، أي ديانات ما قبل الدولة، مترسّخة في الاعتقاد بخارجيّة أساسها. تحييد السياسي فيها يصل الحدّ الأقصى. دشّن ظهور الدولة جدليّة السياسي والديني التي تحدّدت بموجبها الأديان "الإلهيّة" التي نعرفها. الأساس الخارج عن البشر يقترب منها كلّما تعاظم حجم الإلهي. تأثير السياسي يتوسّع بحسب ذلك. دخلنا مع العصر الحديث، منذ القرن السادس عشر، في مسار من طبيعة أخرى: تحرّر السياسي، الذي سيؤدّي على مدى خمسة قرون إلى الخروج من الدين واختفاء "السياسي-الديني". وإنّه انطلاقاً من هذا الانطفاء يمكننا الآن كتابة تاريخ الدين، في ما يتجاوز تاريخ الأديان.

* - العنوان الأصلي للمقال:

Gauchet (Marcel), « Le politique et la religion. Douze propositions en réponse à Alain Caillé. », Revue du MAUSS, 2/2003 (n° 22), p. 328-333.




أطروحات جديدة حول الدين (*)

بقلم: آلان كاييه (Alain Caillé)

إلى دومينيك، المتشكّك جدّاً


مقدّمات

1. نحن بحاجة إلى مفهوم عامّ للدّين لا ينكر تنوّع أشكال الديني، ولا يتجاهل أنّ للفظ الدين ذاته تاريخ، وأنّ ذاك المفهوم ليس بأيّ حال من الأحوال كونيّاً، بل يسمح على العكس من ذلك، بإظهار التنوّع الجوهري لتمظهراته.

2. التغيريّة الأصليّة: أليست إحدى "وظائف" الدين، بل وظيفته الأساسيّة، أو أرقى وظائفه، هي تحديد هويّة مخصوصة، وبالتالي متغيّرة في جوهرها، لمجموعة بشريّة إزاء جماعات بشريّة أخرى؟

3. هل ما يُسمّى الأديان البدائيّة أديان في ذاتها؟ نعم، بمعنى أنّها تمنع كلّ انحراف عن المعيار، وتمنع كلّ تخالف، ولذلك يمكن اعتبارها بمعنى من المعاني الأديان الوحيدة الناجزة بالكامل. ولا، بمعنى أنّها تعمل كما لو أنّها مجال منفصل، ما يجعلها غير متمايزة مطلقاً عن الثقافة، ولا حاجة لها بالتالي في إعادة ربط (religare) ما لم ينحلّ بعد.

4. ولكن، وفي ما عدا إقحام قطيعة مطلقة في تاريخ الجنس البشري، أو تجزئة مبهمة، فإنّه علينا العثور على اعتلام (repérage) للديني يصحّ على تلك الأديان كما يصحّ على الأديان الكبرى، أي على أديان ما قبل الدين، وأديان ما بعد الدين.


في الديني

5. نقصد بالديني جملة العلاقات التي ينشئها ويرعاها مجتمع البشر الأحياء والمنظورين [عالم الشهادة-م] مع جملة الكائنات الخفيّة [عالم الغيب، الخوافي-م] (الموتى، من لم يولدوا بعد، أرواح الحيوانات والمعادن أو الأجرام السماويّة، الأرواح الهائمة غير المتعيّنة). أو كذلك علاقة مجتمع البشر مع مجتمع الخوافي الكوني الممتدّ إلى ما لا نهاية وإلى الأبد.

- هذه العلاقة التي تتأسّس على وجه الخصوص من خلال الكلمات وفي اللغة (أو من خلال الطقوس التي تقوم عمليّاً مقام الأقوال)، تنتشر في الرمزيّة ومن خلالها، وهي فوراً وبدون انفصال علاقة مع أبديّة المرمَّز (le symbolisable) والمعنى الممكن. وبذلك يكون الديني أيضاً ما يتّصل بأبديّة المرمَّز.

6. وينبغي أن نضيف أيضاً أنّ الديني هو، بصورة مشتركة ولكن بنسب متغيّرة للغاية، صنيعة المجتمعات و/أو الأفراد التي تتكوّن منهم. أو هو، إذا شئنا، صنيعة أفراد يتصرّفون ويـ(تـ)ـفكّرون كأفراد، كأعضاء في جماعة معيّنة، كأعضاء في المجتمع، أو كمعنيّين بالإنسانيّة أو الكون بصفة عامّة. إنّه أكثر شيء جماعي وأكثر شيء شخصي في آنٍ.

7. وبإنتاجه هويّة الذوات الإنسانيّة بوضعها في علاقة مع لاتناهي المرمَّز، يعلن الديني أن لا هويّة لتلك الذوات إلاّ في صلتها بما يتجاوزها بلا حدّ. وبالتالي، فهو يفتح مجال عدم الرضا ومجال المعنى.


في السياسي - الديني

8. فلنميّز الديني عن الدين. الديني هو للدّين، ما هو السياسي للسياسة.

9. يشكّل الديني والسياسي معاً لحظة التأسيس التي ترتبط فيها المجتمعات بنفسها وتتشكّل بصفتها تلك، في فرادتها وفي تجاورها، عن طريق رسم حدود بين الداخل والخارج.

• يرسم السياسي الحدّ (الأفقي والمجالي والمزامن) بين الأعداء والأصدقاء، ويرسم الديني الحدّ (الرأسي والعابر للزّمن) بين عالم الشهادة المنظور المحدود وعالم الغيب المحتجب اللامتناهي. ولنطلق على هذه اللحظة المؤسّسة اسم: السياسي- الديني.

• السياسي- الديني هو ما به يضمن المجتمع تشكّله بجعل نفسه منظوراً لنفسه وللآخرين. منظوراً من داخله، ومن خارجه.

• أو: يخصّ السياسي- الديني قدرة المجتمع على إنشاء نفسه بصفته تلك، في حدوده الرمزيّة، في علاقة مع خارجيّة وغيريّة: الأعداء، ماضيه، مستقبله، ما يمكنه أن يكون أو كان يمكنه أن يكون، مثاله الأعلى (ما يعتقد أنّه سيكونه) ومثاله المضادّ (ما يستميت في مغايرته). إنّه يمنح المجتمع هويّته الخاصّة في علاقة مع غيريّة متعيّنة (العدوّ، الغريب) ومع غيريّة لامتعيّنة (لاتناهي المحتجب).

10. السياسي- الديني هو لحظة التطابق الشامل مع الغيريّة: غيريّة البشر الآخرين، وغيريّة المحتجبين في عالم الغيب الممتدّ إلى ما لا نهاية. فالتعالي في جوهره ليس سوى عدم قابليّة تلك الغيريّات للذوبان في عالم البشر الأحياء. وبذلك، تُعطي مختلف الأديان تفسيرات متعالية نسبيّاً لتعالي الديني ذاته.

11. والكاريزما، والفضل، والعطاء، ولامشروطيّة اللاّمشروط متعايشة في هذه اللحظة المؤسّسة، ويصنعها الجميع، تعبيراً عن تلك الكليّة الجامعة للذوات لتي تواجه الغيريّة والتي تعيش في/ ومن خلال بعض الشخوص المحدّدين- ولهذا هم كاريزميّون – والتي تتكثّف وتتبلور في بعض الأشياء المقدّسة.


العطاء والمعنى والرمزيّة

12. وكما يتخلّق المجتمع البشري سياسيّاً على طريقة التعاون الاجتماعي (ad-sociation) ومن خلال العطاء الذي يحوّل الأعداء إلى أصدقاء، والموت إلى حياة، والحرب إلى سلم - أو العكس في حالة عدم العطاء الذي يحوّل السلم والتحالف إلى حرب وصراع متحكّم فيهما نسبيّاً –، فإنّ المجتمع الكبير للبشر ولغير البشر يتخلّق من خلال طقوس العطاء، والصراع والتحالف مع الكيانات الخفيّة.

• ويرتبط التحالف بين البشر بالتحالف مع الخوافي. ولا يمكن التحالف إلاّ مع من يتحالفون مع نفس الخوافي أو من يحترمون خوافي حلفائهم.

• والمجتمعات على غرار الأفراد، تعرّف نفسها في آنٍ من خلال تحديد علاقاتها ببقيّة البشر وبالكيانات الخفيّة.

13. يمثل العطاء وسيلة نوعيّة للمؤسّس السياسي الديني. وهو ثلاثي الأبعاد:

1) عطاء للأعداء بهدف تحويلهم إلى حلفاء؛

2) عطاء بين الأجيال؛

3) عطاء للخوافي.

إنّه ما يصنع الانتقال من الارتياب إلى الثقة، من العداء إلى السلام، ومن الموت إلى الحياة، من الأنانيّة إلى الإيثار، ومن القاعدة والإكراه والقانون إلى الحرّية والفعل والإبداع.

14. المعادل الرمزي المحض للسلام والتحالف – للتوافق بين البشر - هو الإحساس بالحقيقة وبالمعنى، الشعور بالواقع المطلق ("هذا جيّد، وأخيراً حدث هذا") الذي ينتج عن التوافق بين الرموز (عدم تنافرها) بما يضمن التحالف الناجح مع الخوافي.

• يتولّى الدين المصالحة بين البشر من منعطف جُهد التوفيق بين رموز العلاقة بالخفيّ، وهو ما ينتج هذا الإحساس بالواقع وبالحقيقة (الحضور الواقعي للخفيّ).

• وتتولّى السياسة هذه المصالحة عبر تسوية المنازعات بين البشر، ما ينتج عنه الإحساس بالعدل أو الصواب.

15. إدارة المعنى دينيّاً عبر الرمزيّة (أي من خلال كلّ ما يتجاوز مجرّد البعد الدلالي للغة)، تعني ضمنيّاً الإجابة عن سؤال لماذا توجد العداوة والصراع بدلاً من ضدّهما (والعكس بالعكس، لماذا ومن أجل ماذا يجب أن نتقاتل)، وسؤال لماذا ومن أجل ماذا يوجد منظور وخفيّ، وحياة وموت. ولماذا مرّة أخرى، ومن أين يأتي الشرّ، والتعاسة والمعاناة، وفيما يُسمح لنا بالرجاء. لا دين دون أفعال وكلمات إيمان ورجاء وندم وتطهّر.

16. لا وجود لمعنى أو عطاء أو علاقة مع الخوافي، إلاّ لكون البشر - فرديّاً أو جماعيّاً - أكثر ارتباطاً بالصورة التي يعرضونها (ويتلقّونها) عن أنفسهم من ارتباطهم بحقيقتهم الماديّة؛ وبما يعرضونه للرؤية بقدر تساؤلهم عن صورتهم التي ستبقى بعد موتهم، وبقدر اعتقادهم أنّ جمال تلك الصورة أو قيمتها متناسب تماماً مع ما أظهروه من قدرة على العطاء، بالمعنى الذي نقصده.


في الدين

17. بما هو لحظة مؤسّسة للمجتمع، يتميّز الديني- السياسي عن مجموع أنظمة العمل الاجتماعي المؤسَّسة: الاقتصادي، والسياسة، والدين، والفنّ، الخ...

18. السياسة هي موضع تأويل معيّن للسياسي، مثلما هو الدين موضع تأويل معيّن للديني.

19. كما أنّ السياسية تدير الهيمنة المشروعة من خلال هيكلة اللحظة المؤسِّسة للسياسي داخل المجتمع (والذي هو علاقة بخارجيّته)، كذلك يستهدف الدين احتكار الاعتقاد الشرعي والعمل الطقوسي الشرعي والمعرفة الشرعيّة من خلال هيكلة اللحظة المؤسِّسة للديني.

20. أو: الدين يضفي على الذات الاجتماعيّة الحياة و/أو الموت الرمزيّين، كما تضمن السياسة - إدارة الحرب في الخارج والصراع داخل المجتمع - الحياة و/أو الموت الجسديّين.

21. الدين يدير العلاقة مع الزمن وغير المزامن، والمأثور، والعطاء العابر للزمن - لديه وظيفة حفظ الديني وتأنيسه إذ هو ثوري بالقوّة - كما تدير السياسة العلاقة بالمجال بين المتزامنين وتعدّل السياسي، بما هو مصدر المستقبل/المصير.

22. باتّصاله في المقام الأوّل بسؤال لماذا توجد حرب وسلام، حياة وموت - وباختصار، المرور الدائم من المنظور إلى الخفيّ، وبالعكس- يواجه الدين مباشرة قضيّة العنف والشقاء. في ما بين البشر ومع الخوافي.

• وهو كما العطاء، يحدّ من العنف (بمعنى جبر الخواطر المكسورة). يذوّبه في جرعات مثليّة.

• ولكنّه، كما العطاء الذي يقلب بلا حدود العوادي والانتقام أو الفتنة، بالردّ أكثر في كلّ مرّة، فهو أيضاً مفاقم للعنف عند التعامل مع أغيار شديدي الغيريّة، مع أعداء بشريّين كانوا أو من الخَوَافي، لا يمكن التعامل معهم. إنّه يحضّ على السلام مع الأعداء أو يحرّض على تقتيل من لا يتمكّن من مسالمته بالاحتواء.

23. والسياسي- الديني بوصفه ما تُعْلِنُ وتُعاين، من خلاله وفيه، هويّة مجموعة بشريّة نفسها في علاقتها بالآخرين، فهو يسمح بالامتناع عن العنف حيثما كانت الهويّة المادّية والرمزيّة للجماعة مكفولة من قبل السياسة والدين. لكنّه يهيج العنف إذا ما هُدّدت.

24. التضحية الدمويّة تتدخّل بين هذين الحدّين، بين تخفيف العنف ومفاقمته.

25. للديني وجهان: وجه متوّجه نحو مجتمع الخوافي الكبير، ووجه متوّجه نحو مجتمع البشر الصغير. يحيل الأوّل إلى البعد الروحاني حين يخاطب الذوات الاجتماعيّة بشكل فردي. ويحيل الثاني إلى مسألة وحدة جماعة المؤمنين، المؤسَّسة على الإيمان المشترك.


في المقدّس وفي الاعتقاد

26. تبعاً لذلك، يوجد نوعان من المقدّس. يحيل الأوّل إلى العلاقة مع الخوافي (من خلال الضحيّة القربانيّة عند الاقتضاء)، فيما يحمي الثاني النواة المركزيّة للاعتقاد. وهذا المقدّس الثاني هو المدوّنة المنيعة لبقيّة المدوّنات، وهو الضامن للغُفْل الممتنع عن التفكّر أو المساءلة، الغُفْل الموجود في قلب كلّ المعتقدات وكلّ مفكّر فيه، وهو المتحكّم في منظومة الحلال والحرام. المقدّس الأوّل ينظّم النافع والضارّ، والثاني ما يمكن تفكّره والممتنع عن التفكّر.

إعادة صياغة: يوجد نوعان من المقدّس، ذاك الذي يتعلّق بالعطاء الأصلي، وذاك المتعلّق بالعطاء اليومي.

27. في المعتقد. نعتقد أنّ جمع اثنين مع اثنين يساوي أربعة (ولكن بشرط أن يضمن ذلك شخص أو مؤسّسة نعتقد فيها).

بمن (بماذا) نعتقد؟

• الإيمان. نعتقد من جهة أولى في من يسمح بأن تكون لنا ثقة في الحياة اليوميّة، في سلسلة العطايا المتكرّرة بانتظام أو المضمونة التي تشهد بأنّنا لن نتعرّض للخطر، بدنيّاً أو نفسيّاً، وأنّه تمّ تأجيل محنة الموت أو المعاناة.

نحن نعتقد في ما يُديم.

• الرجاء. نعتقد أيضاً، في اتجاه أكثر راديكاليّة، في ما يجعل ممكناً تحقّق عطاء حقيقي، أو حدث، أو مفاجأة، أو انقلاب، أو حلّ نهائي يضع حدّاً لسلسلة الأسباب والمفاعيل الكئيبة والمخيبّة للآمال. نحن نعتقد في معنى متعالٍ يمكنه أن يملأ في نهاية الأمر عدم اكتمال كلّ هوية متعيّنة. نحن نعتقد في ما يجعلنا نزدهر.

28. الدين هو مؤسّسة المعنى التي تُنيط الاعتقاد بوجود شيء (الاعتقاد بأنّ) بالإيمان (الاعتقاد في) والرجاء (توقّع عطاء أصلي)، وتهدّئ في نفس الوقت حرارة انتظار العطاء الأصلي من خلال تنظيم العطاءات اليوميّة.


تاريخيّة الدين

29. يدور المقدّس الأوّل، المتعلّق بإعادة القراءة (relegere) والموجّه نحو الديني، حول مسألة الحقيقة المطلقة؛ وهو مرتبط بالروحانيّة، بالتأمّل والاهتمام بالعالم.

وينتظم المقدّس الثاني، المتعلّق بإعادة الربط (religare)، والموجّه نحو المجتمع، حول مسألة خلق التماسك بين الأفراد.

ولذلك يوجد أيضاً نوعان من الإيمان ومن الاعتقاد. والعلاقة بين إعادة القراءة (relegere) وإعادة الربط (religare) متغايرة بصورة لا متناهية بين المجتمعات وداخل المجتمع الواحد.

30. لا حاجة للشامان إلى ممارسة التضحية للدخول في حوار وتحالف صراعي مع الخوافي أو لعلاج البشر من خلال جعل الخوافي مسموعين من قبل الجميع. إنّه يحتاج فقط إلى الرقص.

31. ولدت ممارسة التضحية البشريّة مع ولادة الملوكيّة والتوطّن والزراعة. الضحيّة القربانيّة والملك يشتركان في أنّ كلّ منهما يُجزي عن مجتمع البشر كلّه. كلّ منهما هو الواحد المُجزي عن الجميع وبديلاً من الجميع. قتل الضحيّة القربانيّة تُجزي عن القتل المؤجّل للملك مؤقّتاً، ثمّ نهائيّاً.

32. الديانات التوحيديّة الثلاث – التي تحتفل جميعها باستبدال إسحاق بن إبراهيم بكبش- تحدّ بشكل حاسم من عدد الخوافي – تُختزل بطريقة مباشرة وحاسمة في خفيّ واحد عظيم- وتلغي التضحية البشريّة- انعكاس الشرّ – لصالح الذنب والخطيئة، واضعة حدّاً للتضحية بالأبناء.

33. يوجد مصدر جميع القيم في الالتزام الثلاثي بالعطاء والتلقّي ووجوب الردّ، الذي ما يزال غامض المنشأ. جميع الأديان، وجميع الأخلاقيّات وجميع الحكمة يمكن قراءتها كما لو أنّها تحوّلات وتأويلات وتشكّلات لهذا الالتزام الثلاثي. و تتميّز "الديانات الكبرى"، الأديان بأتمّ معنى الكلمة، بديناميّة كوننة واجب العطاء وتأصيله واستبطانه.

34. يمكن اعتبار الالتزام الديمقراطي- بالمعنى الحديث للفظ- أكثر أشكال واجب العطاء تقدّماً وأقواها.


هل توجد أديان علمانيّة ؟

35. إن مسألة الفرق (والتفريق) بين معرفة مدنّسة ومعرفة مقدّسة، بين معرفة فلسفيّة أو علميّة من جهة، ومعرفة دينيّة من جهة أخرى، تحيل إلى مسألة العلاقة بين معرفة قَضَويّة - "أعتقد أنّ"- ومعرفة فوق قَضَويّة -" أعتقد في". وهي أيضاً مسألة العلاقة بين العلامات والرموز، بين الدلالة الصريحة والمعنى الضمني، بين خطاب العلامات وخطاب الرموز.

36. لنسمّي أدياناً علمانيّة الخطابات السياسيّة التي تفرض "اعتقاداً في" باسم "اعتقادٍ بأنّ" مفترض، وتبسط قضايا معياريّة لا تبلى ولا تُنتهك، باسم قضايا بيّنة اليقينيّة وخالية من كلّ حمولة معياريّة. إنّها تُخضع الاعتقاد اليقيني للإيمان وللرجاء، لكن باسم الاعتقاد اليقيني. أو بالأحرى: تؤكّد أنّ الحاجة إلى ترصيف "الاعتقاد بأنّ" إلى جانب "الاعتقاد في" هو نتيجة مفروضة، لا من قبل الخوافي، التي تعتبر غير موجودة، بل من قبل المنطق اليقيني وحده للـ"الاعتقاد بأنّ".

37. يصبح الديني ديناً، وينظر إليه بصفته تلك، حين يترك لزومه للمجتمع وللثقافة كي ينتظم كمجال مستقلّ بذاته للفعل والفكر، ويغدو مشغل متخصّصين منظّمين.

• هذا التخصّص يمهّد لتخصّصات أخرى: الفصل مثلاً بين المرض وبين الشرّ والتعاسة، وبين السحرة والكهنة، وبين الكهنة والعلماء أو الفلاسفة، وما إلى ذلك، وهي تعبيرات عن انقسامات المجال الديني وتلاشي سطوته.

• إذا كان من الممكن شفاء الأجساد والنفوس، والتفكّر في الكون أو اتخاذ قرار سياسي حكيم دون أيّ مساعدة من الكهنة، فماذا سيتبقّى لهم؟ لا شيء بالتأكيد.

38. ويبقى مع ذلك، السؤال المزعج المتعلّق بمعرفة ما إذا كان بمقدور مجتمع بشري أن يتأسّس بصفته تلك، متفكّراً نفسه حصراً كمجتمع بشر أحياء ومعاصرين، دون أن يشير مطلقاً إلى انخراطه في عالم الخوافي، ودون تقديم إجابات مميّزة على الأسئلة التي ما تزال إلى حدّ الآن منوطة بعهدة الدين استناداً إلى الديني.

إنّنا هنا إزاء ثلاثة أسئلة متكاملة:

1. إلى أيّ حدّ يمكن لمجتمع حديث معقلن ومتخصّص وقائم على المنفعيّة الاقتصادويّة، أن يستغني عن الاستناد إلى بقايا دين تاريخي والاغتذاء منها؟

2. إلى أيّ حدّ يمكن لمجتمع أن يعيش ويعرّف نفسه دون اعتماد شيء من القيم والمعتقدات المشتركة؟

3. إلى أيّ مدى يمكن لقيم محض دنيويّة –ممتنعة عن كلّ مرجعيّة متعالية- أن تلعب نفس دور المعتقدات الدينيّة المنقرضة؟

39. سنشير، ردّاً على هذه الأسئلة الثلاثة، إلى أنّه إذا ما كانت الولايات المتحدة الأمريكيّة هي الآن وفي ذات الوقت المجتمع الأكثر حداثة (أو فائق الحداثة) والأكثر تماسكاً -الوحيد الذي ما يزال يحتفظ ببعض التماسك؟ فيه بعض القوّة الجماعيّة على كلّ حال-، فإنّ ذلك يعود بلا شكّ (وبصرف النظر عن حقيقة أنها لا تتفكّر نفسها بوصفها مجتمعاً...) إلى كونها في ذات الوقت المجتمع الغربي الأكثر تمسّكاً بالممارسة الدينيّة الموروثة (سؤال رقم 1)، والأكثر تقديساً لقيمه الديمقراطيّة الدستوريّة (السؤال رقم 2) وصاحب القيم الدينيّة الأكثر علمانيّة، بمعنى دعوته إلى مزيد الانخراط في شؤون العالم، بدءاً من الشؤون الأكثر مادّية (السؤال رقم 3). وبالمقابل، فإنّه من اللافت للنظر أن يكون الانهيار السياسي لدول أوروبّا متناسباً طرديّاً مع تلاشي الاعتقاد الديني بين الأوروبيّين.

40. البلدان التي حاولت بناء حداثتها على محايثة محض علمانيّة لسياسة متحرّرة من الدين لم يمكنها فعل ذلك إلاّ بقدر نجاحها في تقديس السياسي بصفته تلك، واعتماد دين سياسي. هذا هو حال فرنسا في المقام الأوّل. وما حماها من الشطط أنّها لم تسع (باستثناء فترة الإرهاب) إلى استئصال الدين الموروث. في المقابل، فإنّ البلدان التي حاولت ذلك - ما يسمّى الدول الشيوعيّة وألمانيا النازيّة- توجّهت لملء جميع وظائف الدين من خلال زعم اختزال لاتناهي المعقول والمرغوب في حدود عالم البشر فحسب. إنّها مهمّة مستحيلة لا يمكنها الانتشار إلاّ بالزيف والتعصّب. لقد قدّست بالخصوص إعادة الربط (religare)- إلى حدّ إلزام الجميع بالاتّحاد في الجسد الرمزي للبشر المنظورين- بقدر نفيها كلّ واقعيّة عن الخفيّ، وعن غيريّة العالم غير القابل للاختزال وما يحتاجه من رعاية: عن إعادة القراءة (relegere).

41. ترتبط التجربة الديمقراطيّة بتفكّك اللاهوتي السياسي. وهي تستتبع الفصل بين السياسة والدين، بما يؤول إلى اضمحلالهما المشترك. ولكن هذا لا يلغي بالضرورة الديني ولا السياسي.

42. في مجتمع الأفراد المفرط المعاصرة، تظهر علاقة المجتمع البشري بمجتمع الخوافي كما لو كانت علاقة شخصيّة ومباشرة ومضادّة للمؤسّسات، لأفراد منفصلين مع الغيريّة الفوق بشريّة أو الدون بشريّة. وينطبق الشيء نفسه على العلاقات مع الآخرين. ويكتشف الديني المعاصر أو هو يعتقد اكتشاف حقيقته في عداوته للدين، كما يكتشف السياسي حقيقته في عدائه للسياسة.

43. هذا التفكيك للدين وللسياسة، وهما مفكّكان الآن في أوروبّا، يعني انتصار الاقتصادي (ويفسّر أيضاً به). والسؤال هو ما إذا كان هذا التفكيك يستتبع نهاية الديمقراطيّة، أو بالعكس، موتها القادم.

هامش

كنتُ قد غامرت في العدد 19 من مجلّة الحركة المضادّة للنفعيّة في العلوم الاجتماعيّة النصف سنويّة ("هل توجد قيم طبيعيّة؟")، باقتراح "سبعة عشر أطروحة (زائد واحدة) حول الدين". ولا شيء ممّا كتبته يبدو لي مخطئاً حتى الآن. لكنّها تميّزت بالخصوص بالجفاف، والتجريد، والسهو. انظر:

Caillé (Alain), « Le politico-religieux : Dix-sept (plus une) thèses embryonnaires écrites dans un esprit de topique sociologique », La Revue du M.A.U.S.S, n° 19, (2002/1), p.304-308.

ولا تستحقّ هذه الأطروحات الجديدة بالتأكيد أفضل ممّا سبقها، وأقول لطمأنتكم إنّني أدرك تماماً تفاهة الادّعاء، من خلال بضعة أسطر، حتى برسم الخطوط العريضة لما شغل الإنسانيّة لآلاف السنين. ومع ذلك، لا مندوحة من تدقيق ما نتحدّث بشأنه ومحاولة تثبيت بعض المفاهيم -على الأقلّ لنفسي- في خضمّ هذا النقاش حول الدين الذي يعطي الانطباع بالدوران في حلقة مفرغة، والحال أنّ الجميع متّفق على أنه يمسّ قضايا جوهريّة.

ولإبراء ذمّتي، سأقول إنّني أدمجت في هذه الصياغات الجديدة مجموعة من الاعتبارات المستوحاة من العديد من الكتّاب الذين وافقوا على الكتابة في هذا العدد من المجلّة حول الدين، وهو ما أكسب الصياغات السابقة مزيداً من العمق والوضوح. ولعلّه يُكتب لهذا التمرين أن لا يكون عقيماً وألاّ يضيع في الصحراء كما قد نخشى.

وقد كان من دواعي سروري أن أرى في هذا العدد من المجلّة مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet) يتفاعل مع أطروحاتي السبعة عشر (التي كانت بحقّ تستدعيه) ويعقّب بتوضيحات حول المفاهيم الخاصّة به. ويمكن لهذه الأطروحات الجديدة حول الدين أن تُقرأ في جزء منها على أنّها ردّ على مقاله "اثنا عشر اقتراحاً ردّاً على آلان كاييه" وعلى أنّها مساهمة في عمل جماعي توضيحي. مرحبا بالنساء والرجال ذوي الإرادة الطيّبة!

انظر:

Gauchet (Marcel), « Le politique et la religion. Douze propositions en réponse à Alain Caillé », La Revue du M.A.U.S.S, n° 22, (2003/2), p.328-333.


الهوامش

[1] - نسبة إلى الفيلسوف رينيه جيرار (René Gérard) الذي أبان نظريّته في علاقة المقدّس بالعنف (حلّ الأزمة الذبائحيّة) خاصّة في كتابه: المقدّس والعنف، ترجمة: سميرة ريشا، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، 2009، 574 صفحة.


[2]- Trigano (Shmuel), Qu’est-ce que la religion ?, Flammarion, Paris, 2001.

[3] - La démission des clercs. Les sciences sociales et l’oubli du politique, La Découverte, Paris, 1993.

[4] - Le tiers paradigme, Desclée de Brouwer, Paris, 2000.

[5] - Lefort (Claude) & Gauchet (Marcel), « Sur la démocratie : le politique et l’institution du social », Textures, n° 2-3, 1971.

* - العنوان الأصلي للمقال:

Caillé (Alain), « Nouvelles thèses sur la religion. », Revue du MAUSS, 2/2003 (no 22), p. 318-327.

bottom of page