من أجل التأسيس لعلم اجتماع الفساد: ياقة بيضاء، أيادي متّسخة... وسجلّ عدلي نظيف !
- بقلم: د. محمّد الحاج سالم
- 20 août 2016
- 6 min de lecture

يرفع أحد الأحزاب السياسيّة شعار محاربة الفساد بوصفه إحدى الأولويّات التي سيعمل عليها إذا ربح الانتخابات. ورغم وجود أشخاص من قيادات ذاك الحزب مورّطين في قضايا فساد مالي منشورة لدى المحاكم، فإنّ قطاعات واسعة من الناخبين تصوّت لفائدته، ويفوز الحزب ويشارك في تشكيل حكومة تضمّ بعض تلك القيادات التي تضع نصب أعينها... محاربة الفساد !
كيف يُمكن فهم هذه "الوضعيّة السوسيولوجيّة الملغزة" ؟
لقد تناولت عدّة دراسات في العلوم الاجتماعيّة مسألة "الإدارة التفاضليّة للجرائم" كي نستخدم عبارة ميشيل فوكو. كما أظهر علم اجتماع الانحراف لماذا ينتهي الأمر غالباً بمرتكبي الجرائم المنتمين إلى الطبقات الشعبيّة دون غيرهم إلى السجن. إنّه علم يحلّل نظام العدالة الجنائيّة من خلال "أنظمة ثانويّة منفصلة عن بعضها"، وموجّهة في الغالب إلى فئات اجتماعيّة بعينها، بحيث يتمّ في كلّ مرحلة إجرائيّة المرور بمصفاة طبقيّة: انطلاقاً من عمل الباحث الجنائي الابتدائي (الشرطة) وصولاً إلى الحسم القضائي (المحاكم)، وما بينهما من مراحل إثبات الأدلّة الجنائيّة للجريمة. والنتيجة أنّ هذه السلسلة هي التي تُوجّه بطرق مختلفة وفي أوقات مختلفة ولكن مع بعض الاستقرار في النتائج، الجرائم المرئيّة المرتكبة في الفضاء العامّ من قبل شباب من الطبقات الدنيا، وتؤدّي إلى اعتقالات وأحكام سريعة وثقيلة.
وقد يُجيبنا علم اجتماع الانحراف عن السؤال المتعلّق بسبب انتماء أغلبيّة المساجين في قضايا الحقّ العامّ إلى فئة الشباب الفقراء والمهمّشين والعاطلين عن العمل. لكنّ السؤال الأهمّ هو: ما هي الجرائم التي ترتكبها النُّخب؟ وكيف يتمّ التعامل معها من قبل مجمل المؤسّسات الردعيّة؟
الحقيقة أنّه يصعب تعريف مفهوم النخبة، فالجرائم المتعلّقة بالضرائب مثلاً أو بقانون الشركات يمكن أن يرتكبها أفراد من الطبقة المتوسّطة وأصحاب المشاريع الصغيرة، وهؤلاء قطعاً لا يمكن اعتبارهم من النخبة. ومن هنا، فإنّ المحدّد سيكون علاقة الجريمة المرتكبة بوظيفة التحكّم واتّخاذ القرار في مجالات الاقتصاد أو السياسة. وبعبارة أخرى، فإنّ ما يهمّنا هو "التجاوزات المرتكبة تجاه المعايير المحدّدة المتعلّقة بممارسة وظيفة عموميّة أو خاصّة والتي تُرتكب بشكل فردي أو جماعي من قبل هيئة صاحبة قرار".
أغلب الظنّ أنّ مثل هذا التحديد من شأنه المساعدة على فهم مسألة ما يسمّى عادة "جرائم الياقات البيضاء" في هذه الفترة بالذّات التي تمرّ بها المنطقة العربيّة عموماً، وبالتّالي وضع اللبنات الأولى لما يمكن اعتباره "علم اجتماع الفساد" في هذه الربوع، وذلك لسببين على الأقلّ.
الأوّل سياسي، وهو تعدّد الفضائح والقضايا المتعلّقة بالممارسات الماليّة للمؤسّسات وللجنان الضريبيّة، وتلك المتعلّقة بالفساد والمحسوبيّة الواضحة دون شكّ عند بعض القيادات السياسيّة والحزبيّة، وهذا في سياق أزمة يتحدّث عنها الجميع وخاصّة بعض النشطاء الحقوقيّين والصحفيّين و القضاة من أجل وضع جرائم ذوي الياقات البيضاء في واجهة القضايا الواجب التصدّي لها. ولسنا في حاجة في هذا السياق إلى الإشارة إلى قضايا لوالب القلب الفاسدة التي تورّطت فيها بعض المصحّات الخاصّة وربّما بعض مسؤولي وزارة الصحّة، ولا إلى ما أثارته قضيّة بنك بنما من روائح تهرّب ضريبي لبعض المسؤولين السياسيّين ورجال الأعمال المنخرطين في أنشطة حزبيّة أو في دعم غير خفيّ لبعض الأحزاب ووسائل الإعلام بما يخدم مصالحهم واقلّها التعمية عمّا قد يرتكبون من تجاوزات، والقائمة تطول، ولا فائدة من الإطالة بشأنها، إذ أنّ الأقرب إلى منطق الأحداث أن يتمّ وأدها على غرار ما شهدته عدّة قضايا أخرى لا تقلّ عنها خطورة على غرار قضيّة المبالغ الماليّة الهامّة التي تلقّاها أحد المترشّحين لمنصب رئاسة الدولة من جهة خارجيّة لم يُفصح عنها إلى حدّ الآن، كما لم يُفصح عن المورّط فيها، وهو بلا شكّ أحد أصحاب الياقات البيضاء المحرّمة جلودهم أن تلمسها جدران السجون !
على أنّ الكشف عن خفايا إحدى قضايا الفساد قد لا يكفي لفضح القوى السياسيّة والاجتماعيّة التي تقف وراءه. فالمتتبّع لتاريخ النخب المنحرفة يقف على تناقض غريب بين الفترات التي تُثار فيها هذه القضايا من قبل وسائل الاعلام ونشطاء الحركات وغيرهم، وتلك التي لا تظهر فيها أيّ قضيّة علناً رغم تعلّقها بنفس تلك الممارسات ! لكنّ قد يكون من محاسن ذاك الكشف أنّه يؤكّد الطابع الثابت لتلك المراوحة بين الصمت والفضح، ويؤشّر في نهاية المطاف على وجود عجز هيكلي عن "محاربة الفساد" ويدعو إلى البحث عن طرق أخرى لفهم هذه الممارسات الإجراميّة، كي نُوقف "تلاعب النخب بالقواعد التي تفرضها على الآخرين" على ما هو معروف في أدبيّات سوسيولوجيا النُّخب.
أمّا السبب الثاني، فهو أكاديمي بحثي ويتعلّق بوجود جرائم دون مجرمين. والسؤال المحرّك هنا هو: كيف يمكن لبعض الناس ارتكاب جرائم دون أن يعتبروا أنفسهم، ولا يعتبرهم الآخرون، منحرفين ؟
الحقّ أنّ أحد مظاهر تخفّي انحراف النخب مرتبط بشدّة بتاريخ معارفنا حول الجريمة بشكل عامّ. ففي نهاية القرن التاسع عشر، قام إنريكو فيرّي (Enrico Ferri)، مؤسّس مدرسة علم الإجرام الوضعيّة الايطاليّة، بتقسيم المجتمع إلى طبقتين: طبقة عليا "لا ترتكب جرائم، وهي مستقيمة عضويّاً"، وطبقة سُفلى مكوّنة من الناس "المقاومين لكلّ شعور بالاستقامة". وقد حاولت الدراسات المتعلّقة بالجريمة مطوّلاً "عقلنة هذا الإنكار"، وتجاهلت تماماً جرائم النخبة، وهو ما فعلته أيضاً فلسفة القانون الجزائي حين ميّزت بين أنواع الجرائم، بين الجرائم الحقيقيّة بذاتها (mala in se) والجرائم التي يخلقها القانون (mala prohibita)، وهو ما نراه في أساس التجريم الأبدي لسرقات الفقراء، ووضع معايير متغيّرة وأقلّ تشدّداً لا يمثّل خرقها نفس الخطورة، ونعني تحايل الأغنياء على القواعد المحاسبيّة والضريبيّة !
وبهذا، فإنّ انحراف النخب أقلّ ظهوراً في العلن، ليس بسبب أنّ الباحثين لا يريدون رؤيته، وهذا صحيح في كثير من الأحيان بحكم تبعيّة بعض دوائر البحث العلمي لمراكز نفوذ ماليّة أو سياسيّة، حتّى داخل الجامعة ذاتها، بل لأنّ البحث ذاته مرتبط بالانتماءات الاجتماعيّة لمن يُباشره. فمعظم البحوث في العلوم الاجتماعيّة تتّخذ موضوعها الفئات الضعيفة أو المهيمن عليها (الفقراء، سكّان الأحياء الشعبيّة، انحراف المراهقين، الباعة المتجوّلون، الأمّهات العزباوات، المتسوّلون، الشباب الهارب في قوارب الموت، انتحار الأطفال، الخ). أمّا الوجه الثاني لامتناع انحراف النخب عن الظهور العلني في مجال البحث الأكاديمي، فهو مرتبط بصعوبة النفاذ إلى دوائر صنع القرار السياسي والمالي والإداري، فالوصول إلى وثائق داخل مكتب أحد المديرين أو أصحاب المال والأعمال أصعب بما لا يُقاس من الوصول إلى وثائق ملفّ شابّ مورّط في جريمة سرقة غسيل من حديقة أحد المنازل !
ومن هنا، فإنّ البحث في عالم الفاعلين المهيمنين هو غير البحث في عالم المفقَّرين المخضَعين. ولا أدلّ على ذلك من سهولة النفاذ إلى الإحصائيّات المتعلّقة بالجرائم الجنائيّة في مكاتب الشرطة العدليّة وكتابة المحاكم، مقابل صعوبة توفّر مثل تلك الإحصائيّات حتّى عند أعلى الهيئات المكلّفة بالحوكمة ومحاربة الفساد والتهرّب الضريبي. وما الأرقام المتضاربة التي يُقدّمها المنافحون عن مشروع قانون المصالحة الاقتصاديّة أنفسهم عنّا ببعيد، رغم أنّه قانون يفترض أن يقوم المنتفعون به بالاعتراف بما اقترفوه من جرائم اقتصاديّة وماليّة وضريبيّة بما يسهّل عمليّة تعدادها ومعرفة آليّات اشتغالها كي لا تتكرّر (حسب المنطق السياسي الحزبي) ولكي تُتّخذ تدابير تشريعيّة تمنع تواصلها (الأحرى القول بأنّ المصالحة تُشرّع الإفلات من العقاب المتوجّب عنها حسب المنطق التشريعي القانوني). ومن هنا، فإنّ نصيباً كبيراً من جرائم النخب سيبقى محفوفاً بالألغاز حتّى وإن انكشف أمرها وصُرّح فيها بأحكام قضائيّة باتّة، ولنا في ما حفّ بقضايا الأملاك المصادرة لبعض العائلات القريبة من دوائر الرئيس المخلوع بن عليّ من ظلال وتجاوزات وتحايل عبرة وأيّ عبرة !
على أنّ النزاهة العلميّة تقتضي منّا الإشارة إلى وجود عدّة باحثين وبعض المنظّمات الحقوقيّة بصدد محاولة بناء قاعدة بيانات وإن على غير مثال علمي مدروس. فنحن لا نعدم بعض المحامين والمدوّنين وبعض المدافعين عن الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وحتّى بعض السياسيّين على نُدرتهم، يقومون بنشر بعض الوثائق السريّة التي من شأنها تفكيك أسطورة الطبقة "المستقيمة عضويّاً". ودون الدخول في بعض التفاصيل الخاصّة بما يراه البعض حرب تقاسم السوق والثروات والنفوذ الاقتصادي بعد انهيار منظومة فساد قديمة تُبنى على أنقاضها الآن منظومة جديدة، فإنّ ما يرشح إلى حدّ الآن من الوثائق والقضايا المنشورة يدلّ على أنّ أغلب من يستخدم الوسائل غير المشروعة للحصول على الثروة (التهرّب من دفع الضرائب، مراكمة الوظائف الشائعة في تونس إذ تجد أحدهم عضو أربعة أو خمسة مجالس إدارة لمؤسّسات عموميّة إضافة إلى رئاسة فريق رياضي وجمعيّة ثقافيّة وقيادة حزب سياسي وعضويّة ستّ أو سبع لجان وزاريّة...، توظيف عمّال غير مصرّح بهم، تهريب السلع عبر الحدود البريّة والموانيء، الخ) هم أساساً من فئة الكهول المقتربين من الشيخوخة (50-70 سنة)، ومن الحاصلين على مؤهّلات جامعيّة إذا كانوا من كبار موظّفي الدولة، أو هم من أصحاب المهن الحرّة وأصحاب المؤسّسات الخاصّة عموماً. وبالتالي فإن السؤال هو: لماذا لا تتمّ متابعة هذه الوسائل غير المشروعة والمعروفة للقاصي والداني إلاّ بقلّة في المحاكم ومن قبل قلّة من المهتمّين بالشأن العامّ؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في مقال قادم نحلّل فيه ردود الفعل الاجتماعيّة تجاه الجريمة الاقتصادية لنبيّن كيف تخضع كلّ مرحلة من مراحل الجريمة إلى إجراءات محدّدة من شأنها تمييع الجريمة منذ مرحلة الارتكاب وصولاً إلى مرحلة الإدانة. ولا نقصد الإدانة القانونيّة القضائيّة، فهذا صعب بحكم تفتّت الهيئات المكلّفة بمتابعة الجرائم ذاتها وما يخترق تنظيمها الإداري من اختلالات تصبّ في مصلحة المشبوه فيهم إن لم تكن تُوظّف لصالحهم في بعض الحالات، بل نقصد الإدانة الاجتماعيّة التي نلاحظ ضعفها تجاه بعض المنحرفين من أصحاب المال والجاه ممّن يتحكّم في الأسواق والبورصات ويحتكر مسالك توزيع الثروات والوظائف السياسيّة والاقتصاديّة والماليّة، مقابل الوصم الاجتماعي الشديد لمن يسرق... فردة حذاء !
دوّار هيشر البهيّة في 20 أوت 2016




Commentaires